أحمد الديري مدير منتديات الدير في الحلقة الأولى من شهادته: هكذا خفت صوت زكريا العشيري إلى الأبد

2012-01-04 - 4:31 م


مرآة البحربن(خاص): لم يكن اعتقاله أكثر من ثلاثة أشهر (1 نيسان/ابريل-2 تموز/يوليو)، لكنها كانت أكثر من عمر. الساعة تمر مثل جبل سنة، والألم يضعنا تحت دكة هذا الجبل مباشرة. شهادته تكشف جانباً مما تعرض له المدونون من انتهاكات، والذي راح زكريا العشيري أحد ضحاياها. إنه المدون أحمد الديري (44 سنة)، مدير منتدى الدير.

ستبقى آذاننا تألف ما يتكرر سماعه، البشاعة قد يخف امتعاضنا منها مع تكرر سماعنا لها، لكن لن يألف أحدنا أن يعيش هذه البشاعة مهما ألفتها أذنه، ستبقى تُمعضنا مهما تكرر حدوثها. منذ 16 آذار/مارس، يتكرر ما يتعرض له الناس من إهانة وإذلال وانتهاك وتعذيب، التكرار يجعل بعضه مستهلكاً كحديث، لكنه ليس كذلك أبداً لمن يقع عليه، سيعيشه كل منا وكأنه يحدث للمرة الأولى.


لقد دخلوا..
اعتادت آذانكم أن تسمع عن مداهمات الفجر، لم تعد جديدة، لكني قمت مفزوعاً الساعة الثالثة من فجر أول نيسان/أبريل الماضي، على أصوات قوية جداً، هرعت ناحية باب غرفتي، كان ابني الأصغر وصل عندها ليصيح برعب: "أبي أبي لقد دخلوا بيتنا".

خمس ثوانِ كانت كافية ليقتحم الملثمون البيت ويحطموا ويعيثوا ويروعوا وينتشروا في كل مكان فيه. لا أتذكر عدد القوات التي اقتحمت، لكن جميعهم كانوا مدججين بالسلاح وملثمين، عدا قائدهم، يرتدي ثياباً مدنية ومكشوف الوجه.

صرت مع ولديّ حمزة وعلي قبال رجال الأمن في الطابق العلوي، أمروهما أن يقابلا الجدار ويرفعا أيديهما. سألني قائدهم: "أين الكمبيوتر؟"، أخذته إلى مكتبي، أمرني أن أضع كلمة السر، فعلت، انكشف أمامه الجهاز ومحتوياته وآخر ما تصفحته، تنقل بين المواقع المفتوحة عن طريق تحريك (TAB). التفت لي: "أنت تدخل الكثير من المنتديات". لم يكن الأمر سراً. لم أجب. سألته: "هل أنا متهم بشيء؟" رد بزجرة: "وهل تجدني هنا أمزح معك؟"

قاموا بالتفتيش، كلما رأوا (تربة حسينية) ألقوها على الجدار وكسروها، استولوا على جميع أجهزة الحاسوب والهواتف المحمولة، كذلك مبلغاً من المال.
سأل قائدهم ولدي حمزة: "أين تعمل؟" أجاب: "طالب في جامعة البحرين". قال: "مؤكد شاركت في أعمال العنف بالجامعة". التفت إلى الجنود وأمرهم بأخذه. الأمر نفسه مع ولدي علي. أمرني أيضاً بالنزول، استأذنته أن ألبس، سمح لي بثوب فقط. قاموا بتقييد ولديّ وعصبوا عيونهما، أخذوهما في سيارة أخرى. علمت بعد الإفراج عني أنهم ضربوهما أثناء القبض عليهما.

في فناء البيت، بعد تقييدي وتغطية عينيّ، طلبوا مني ترديد شعارات تمجد النظام. أمسك قائدهم بيدي وأدخلني السيارة، وسمعته يهاتف رئيسه قائلاً: "سيدي، استلمنا الهدف".

منتدى الدير..
وصلنا إلى مكان، اتضح لاحقاً أنه مبنى التحقيقات الجنائية بالعدلية، بعد تحقيق قصير وتهديد، تركوني في أحد المكاتب حتى الظهر، نقلت لمكتب آخر، ليبدأ تحقيق آخر وعيوني معصبة، معظم الأسئلة عن منتدى الدير. أجبروني أن أخبرهم بالاسم الذي أدخل به للمنتدى وكلمة السر، وطلبوا مني أن أخبرهم بكيفية غلقه، ففعلت. سألوني بعدها عن (أبو راشد)، وهو الاسم الذي يدخل به الشهيد زكريا راشد العشيري للمنتدى، وهو المشرف الجديد على منتدى شؤون القرية، والمشرف على الفرع المخصص لأحداث البحرين المسمى (انتفاضة 14 فبراير)، أخبرتهم بأنه زكريا العشيري، كنا نعمل في الضوء، لم نمارس عملاً ممنوعاً أو سرياً. سألوني عمن يساعدني في إدارة المنتدى ولديه جميع صلاحياتي، أخبرتهم أنه مرتضى مطر. كان السب والشتم هو لغة السؤال والكلام، طعن في الشرف والمذهب. وقعت على محضر أقوال قبل أن يعيدوني للمكتب الأول. بعد ساعات، دخل أحدهم حانقاً: "ماذا تريد أكثر مما لديك؟ هل تعلم أن أكثر من نصف السنة في البلاد لا يستطيعون السكن في بيت مثل البيت الذي لديك؟" وبدأ تحقيق ثالث، حول منتدى الدير والذهاب للدوار. وقعت على محضر لا أعلم محتواه، كنت معصب العينين.

استدعاني صباح السبت محقق آخر، الأسئلة نفسها، سألته عن مصير ولديّ، قال: "أفرجنا عنهما ليقوما برعاية أمهما"، لم أصدق، لم أعلم عنهما أي شيء لغاية يوم 13 حزيران/يونيو 2011.

في المكتب، شعرت بوجود شخص آخر، حاولت التحدث إليه، فدخل عليّ أحدهم مهدداً: "إن سمعتك تنطق حرفاً سأريك ماذا أفعل بك، لا تظن أن وصولك لهذا السن   سيمنعني من ضربك، أنا لا أفرق بين أن يكون الشخص عمره ست أو ستون سنة!"

الضرب أولاً..
فجر الأحد، سمعت صوت مرتضى مطر يدخل الغرفة نفسها، صديقي المسئول عن الأمور الفنية بالمنتدى، ثم صوت الشهيد زكريا العشيري. نادى أحدهم باسمي، شعرت من طريقة كلامه ومسكه لي أن الأمر سيتجه للأسوأ الآن، لم يكن حدسي كاذباً، أخذني لتحقيق جديد، كان قائد المجموعة التي قامت باعتقالي هو المحقق، معه آخران، فكان يسألني، وقبل أن أتمكن من الاجابة يقومان بضربي. ثم قال: لا تعتقد أني طيب مثل الآخرين الذين أخذوا إفادتك، لابد أن تعترف لي بكل شيء.
سألني: من قام بإنشاء القسم الخاص بـ 14 فبراير؟
أجبت: أنا ومرتضى.
المحقق: من بالضبط؟
أنا: أنا قمت بذلك.
المحقق: من قام بتصميم البنر الموجود في واجهة المنتدى؟
أنا: أنا ومرتضى.
المحقق: من بالضبط؟
أنا: أنا قمت بذلك.
المحقق: لماذا قمت بذلك؟
أنا: لم نقم بذلك إلا بعد أن ظهر سمو ولي العهد وأعلن السماح بالتظاهر.
المحقق: لا تقم بتوسيخ   اسم ولي العهد بلسانك.
ثم أضاف: "ألم يوفر لكم الملك كل ما تريدون وتطلبون، تريدون أن تعملوا مثل التونسيين والمصريين، زين العابدين منع التونسيين من الصلاة لمدة أربعين سنة، ومبارك أوصل شعبه لحالة من الفقر المدقع، أنتم ماذا تريدون أكثر مما لديكم؟ ثم قال: هل تريدون أن ترجع أيام الشيخ عيسى أو الحرية التي وفرها لكم بو سلمان؟"
فأجبته: "الله يخلي أبو سلمان".
فقال: "لأنك قلت الله يخلي بو سلمان سأتركك، ليس من أجلك، ولكن لأنك ذكرت اسم بو سلمان"، حينها فقط توقفوا عن الضرب والركل والرفس على كل مكان بجسمي الذي استمر حوالي 10 دقائق. أخذوني لأحد المكاتب حيث طلبوا مني التوقيع على أوراق لا أعرف محتواها.

مريض بالانزلاق الغضروفي (الديسك)..
بقيت في هذا المكتب حتى ليل الثلاثاء الخامس من نيسان/أبريل 2011، حوالي الساعة العاشرة مساءً. أخذونا نحن الأربعة، زعموا أنهم قرروا الإفراج عنا، كانت أعيننا معصبة، وضعوا القيود الحديدية في أيدينا، أركبونا حافلةً. استلمتنا مجموعة من الشرطة، طلبوا منا أن نخلع جميع ملابسنا ونرجع نلبسها وأن نقف ونجلس ثلاث مرات. قيدوا أيدينا من الخلف، طلبوا منا أن نجلس مقابلين الجدار. بقينا ساعات طويلة، شعرت بالتعب والانهيار، لم أعد أتحمل وجود القيد في يدي، أخذت أنادي: لو سمحت.. لو سمحت، لا أحد يجيب، بقيت أنادي طويلاً حتى جاء الشرطي الباكستاني بحنق: "شنو تبي؟"، قلت: "لا أستطيع تحمل الوضع". كان رده علي معاقبتي بالوقوف مقابل الجدار وانصرف. شعرت بانهيار، عدت أنادي، لا أحد يجيب.

رحت أنادي رفاقي الثلاثة، الذين أعتقد بأنهم كانوا معي بنفس المكان: "أبو راشد، مرتضى، حسن، هل ستتركوني أموت أمامكم؟ تكلموا، قولوا لهم بأني مريض بالديسك ولا أتحمل وجود القيود ويداي للخلف وواقف مقابلاً للجدار". لا أحد يجيب، أشعر بوجودهم، أسمع أنينهم، أحس بحركتهم، لكن لا أحد يجيب.
رجعت أنادي، بعدها لا أدري ماذا حصل، كان قد أغمي عليّ، وجدت نفسي   ملقى على ظهري، القيد الحديدي صار بين السيراميك وعمودي الفقري، ألم فظيع لا يمكنني احتماله، أي حركة أقوم بها ستسبب احتكاك الحديد بعمودي الفقري، بالتأكيد أنا لا أستطيع أن أتحمل هذا الوضع دقيقة أخرى. صرت أردد الشهادتين، وأفكر في ابنيّ اللذين لا أعرف ماذا يواجههما: هل يتعرضون لما أتعرض له أنا حالياً؟ هل يئنون؟ هل يصرخون؟

وجبات الضرب..
 
عدت أنادي الشرطي: "لو سمحت، لو سمحت". الشرطي الحانق: "شنو تبي؟" قلت: "أجلسني، سأموت". قال: "ستموت؟ فلتمت"، ومضى. عدت أنادي رفاقي: "زكريا، مرتضى، حسن". لا أحد يجيب. الحديد يأكل في عظامي. لم يعد لديّ شك بأني ميت لا محالة. بقيت هكذا حتى الساعة السابعة صباحاً، عرفت ذلك من وجبة الإفطار التي وصلت. الشرطي إياه قبل أن تنتهي فترة مناوبته جاء نحوي، وصار يحركني برجليه، وأنا في عجز الألم، إلى أن استطعت الجلوس.

فكوا القيد عن أيدينا لنأكل دون نزع العصابة عن أعيننا، في اللحظة نفسها بدأنا نسمع الضرب والصراخ في غرف ملاصقة. شعرت بغصة لم تمكني من تناول الطعام الذي لا أعرف ما هو. شربت قليلاً من الشاي فقط. خمس دقائق فقط واعادوا القيود، وصوت الضرب والصراخ لا زال متواصلاً في الغرف الملاصقة. في اللحظة نفسها كان الباب يفتح، خطوات الكائن المرعب تتجه نحوي، هذا ما أشعر به، تقترب أكثر، كنت مقابلاً الجدار، جاء هذا الجلاد، وضع لحيته على كتفي الأيمن، ناداني بصوت خافت جداً، وكأنه يقول لي سراً: "شحوالك؟" مسكني من ثوبي، أوقفني، أول ضربة كانت على ظهري، صرت أترنح يميناً ويساراً، بعدها جلست. هذا السيناريو صار يتكرر كل خمس أو عشر دقائق تقريباً. يتكرر كما هو تماماً، باستثناء تغيير شيء واحد؛ مكان الضرب. لم يبق مكان في جسمي لم يحصل على نصيب وافر من الضرب. التوقف عن الضرب أثناء وجبتي الغداء والعشاء فقط، دقائق ويستأنفون الضرب. كلما سمعت فتح الباب، قلت أنهم قادمون لي. يصدق حدسي دائماً.

شنو تبي أكثر..
الآن أسمع أحد الجلادين يسأل أحد زملائي الثلاثة: "شنو تشتغل؟"
توقعت أن يكون الجواب من الشهيد زكريا: في شركة الملاحة العربية، أو من صديقي مرتضى: في شركة آي تي، أو من حسن الخرسي. لكن الجواب جاء مختلفاً، والصوت لم أتعرف عليه. قال: "أنا دكتور أسنان". الجلاد: "كم معاشك؟"، أجاب: "1600 دينار". الجلاد: "شنو تبي أكثر؟، ليش ما تعالج المرضى السنة في السلمانية؟"، قام بضربه. كان ذلك الدكتور غسان ضيف.

أتى نحوي: "شنو تشتغل؟"، أجبت: "أنا متقاعد". قال: "عندك بيت من الإسكان؟"، أجبت: "نعم"، قال: "شنو تبي أكثر؟ إيران بيعطونك أكثر من البحرين؟"، ثم قام بضربي بكل ما أوتي من قوة على وجهي، شعرت بالانهيار. استمر الوضع طول اليوم. كل خمس أو عشر دقائق تقريباً يأتون ليضربونا.

قص.. قص..
بعد الظهر، أتى أحدهم وطلب مني أن أقف، أمسكني من ثوبي، سرنا في ممر، الركلات تأتي من كل من يمر بي، نصل إلى غرفة، مباشرة يصيح قائدهم: "جيبه جيبه قص ... قص ... (يقصد العضو الذكري)". خلعوا عني ملابسي، باستثناء القطعة الوحيدة للباس الداخلي. أحدهم يمسك بالمكان الذي يهددوني بقطعه. أجلسوني على كرسي، به فتحة عند مكان الجلوس، هل يمكن أن يكون الأمر حقيقة؟ هذا الكرسي مهيأ لهذا بالفعل. صاح بي: "تريدون أن تضعوا السنكيس رئيساً للوزراء؟"، لم يمهلني لأجيب، أضاف بلغة هابطة: "واحد بنغالي اغتصب السنكيس على هذا السرير، انظر للسرير، اغتصبه ثلاث مرات، ولدينا الصور إن أردت أن تراها". ثم قال: "هنا يوجد كرسيان، الكرسي الذي تجلس عليه الآن، وهو المخصص لقطع العضو الذكري، أما الكرسي الثاني فهو للاعتراف، اختر أي كرسي تحب الجلوس عليه"، أجبت: "أريد الجلوس على الكرسي الآخر". نقلوني ثم سألني: "ليش تسوي مظاهرات؟"، الأغبياء لا يعرفون تهمتي. قلت: "أنا غير متهم بالتظاهر"، قال: "شنو تهمتك؟"، أجبت: "الإنترنت"، قال: "عليك أن تعترف الآن بمن يعملون معك في الإنترنت أو سنعيدك للكرسي الثاني". أعطيته أسماء المشاركين في المنتدى: الشيخ حمزة الديري، علي راشد العشيري، محمد حسن عباس، الدكتور محمد عباس. طلبوا مني أن أوقع على ورقة. ثم قال: "سأخلع العصابة عن عينيك، لكن ظل مغمض العينين، إن فتحت إحداهما سأقوم بقلعها"، قاموا بحلق رأسي ولحيتي. أعادوني للمكان ذاته، وعادوا لاستئناف الضرب كل عدة دقائق. بقينا هكذا حتى منتصف ليل 6 نيسان/أبريل 2011.

أتوسد حذائي..
الآن توقفوا عن الضرب، مع أيدينا المقيدة من الخلف وعصابة أعيننا، أمرونا أن ننام، لم أستطع النوم على السيراميك، حاولت الاستلقاء على جانبي، لم اتحمل أكثر من دقائق، الجلوس ينهكني وأنا بحاجة للنوم، ولا أستطيع النوم بالوضع الذي أنا به. لم يكن مسموحاً لنا بالصلاة، فكنت أصلي بالإيماء وبدون وضوء، منذ أكثر من 17 عاماً لا أترك قراءة سورة الواقعة في كل ليلة، والحمد لله بأني لم أنس قرائتها في هذه الأجواء، كنت واثقاً بأن الله سيتقبل مني الصلاة بالطريقة التي أؤديها. لم أستطع النوم تلك الليلة ولا لدقيقة واحدة.

وهكذا، يأتي يوم جديد طويل ومؤلم. السيناريو نفسه، بواقع فترة أطول بين وجبة الضرب والوجبة التي تليها. صار ممنوعاً علينا مناداة الشرطة بـ (لو سمحت). لابد أن تنادي عليهم (سِيدِي). مهما كانت رتبة هذا الشرطي، فهو السيد، وهو الحاكم، وهو الآمر الناهي هنا.

اليوم الخميس، السابع من نسيان/أبريل 2011، سمحوا لنا أن نستند للجدار. الشرطي الذي يأخذك لدورة المياه ويرجعك مرة أخرى هو من يختار مكانك الذي لا يجوز لك تغييره. أحد المعتقلين كان مريضاً، معتقلاً قبلي بأيام، منوا عليه أن أعطوه مرقداً (مرتبة) بسيطاً، لا زلت لا أعلم من معي، لكني استطعت أن أعرف بأن أحدهم ينام على مرقد. لم أعد أستطيع أن أتوسد حذائي كما كنت أفعل في التحقيقات بالعدلية، بسبب ضرب الأمس فقدت حذائي، حصل مع كثيرين. حاولت أن أتسلل لأصل عند رجلي صاحب المرقد، وأضع رأسي على مرقده ولو هنيئة. لكني دفعت ثمن تلك المغامرة غالياً. لحظات وتأتيني الركلات والرفسات المتتالية، وصراخ: "قوم يا ... يا ..."، عليك أن تضع أي كلمة من كلمات الشتم والسب. بقيت على هذا الحال حتى السبت.

يوم زكريا..
 
ظهر الخميس، دخل أحدهم وجاء لي، أخذ يفرك بقوة وبشكل دائري على رجلي اليمنى بحذائه الحديدي، شعرت أنه سيغمى عليّ من شدة الألم، نزفت رجلي دماً وانكسر ظفر واحدة من أصابعي، ثم قام بضربي على فخذي الأيمن بقوة بالحذاء نفسه، بقى أثر الضربة لأيام. لم نعد نعرف الأيام، ولا الأوقات، لا نعرف غير وجبات الضرب، أكرر عليهم بأني مريض بالسكري، دون فائدة.

صباح السبت الكئيب، كنت أسمع ضرب أحدهم في زنزانة قريبة، استطعت أن أميز أنه كان ضرباً مبرحاً بخرطوم ماء (هوز)، كلما ضُرب هذا الشخص كان يرد بصوت مرتفع جداً: الحمد لله. إنه صوت صديقي زكريا. لماذا يستفزهم؟ كنت أحدث نفسي، فليسكت عنهم كي يكفوا عنه. بقى الصوتان طويلاً حتى خفتا، صوت الضرب، وصوت زكريا. لم أكن أعرف أن هذا الخفوت، هو خفوت صوت زكريا الأخير.

ظهراً، أدخلوني زنزانة أخرى، أحدهم برتبة ثلاثة خيوط، فك أيدينا وأعيننا، كنا ستة. أعطانا مراقد ومخدات ولحافاً عتيقاً مصفراً. أخبرنا أنه لا يجوز لنا الحديث لبعضنا البعض، وأنه عند مخالفة أحدنا سيعاقب الجميع بعودة القيود والعصابة.

كنت أسأل صديقي مرتضى الذي كان معي في نفس الزنزانة عن الشهيد زكريا رحمه الله، يقول ربما وضعوه في زنزانة أخرى. وهو الأمر الذي اتفقت معه بشأنه. ربما كان 20 نيسان/أبريل، حين أدخل علينا شاب جديد، كنا في لهفة لنعرف ما يحدث خارجاً، ولا توجد فرصة أفضل من مجئ معتقل جديد ليخبرنا. كان خليل يخبرنا أن الاحتجاجات لازالت متواصلة، والناس ليس في نيتها السكوت. سألته: هل يوجد شهداء؟ خليل: نعم، في الأيام الأخيرة استشهد اثنان، واحد من السهلة والثاني من الدير. سألته بقلق: من استشهد من الدير؟ كانت صورة حمزة وعلي أمام عيني، لم أستطع تحمل انتظار الثواني لأسمع بقية الخبر. خليل: هو شخص في الأربعين من العمر، لكن لا أتذكر اسمه. الححت عليه ليتذكر أي شيء بخصوص شهيد الدير، فقال: هو من عائلة العشيري، ولعل اسمه زكريا. كانت فاجعتنا.


ولداي..
بتاريخ 13 حزيران/يونيو 2011 كانت الجلسة الثانية لمحاكمة الأطباء، وفيها تم توزيعهم إلى مجموعتين، مجموعة الجنح ومجموعة الجنايات، وفي نفس اليوم سُمح لنا بالاتصال بأهالينا. اتصلت بأهلي للمرة الأولى، علمت أن ولديّ لم يفرج عنهما. بتاريخ 14 حزيران/يونيو كانت الزيارة الأولى لي مع الأهل.

كانت الصدفة التي أراحت قلبي، هي رؤيتي لابني حمزة بتاريخ 20 حزيران/يونيو تقريباً، التقيته في طريقي لعيادة الأسنان بالقلعة، في موعد لمتابعة علاج الطاحنة اليمنى العلوية التي سببت لي الكثير من الألم في الأيام الماضية. اللقاء لم يتجاوز عشر ثوانٍ. لكن بتاريخ 24 حزيران/يونيو، رتب لي لقاء مع ولديّ، استمر حوالي نصف ساعة.

تم تقديمي للمحاكمة بتاريخ 28 حزيران/يونيو، معي كل من مرتضى مطر، وحسن الخرسي. الشهيد العشيري كان مطلوباً في القضية نفسها. الجلسة لم تستغرق أكثر من خمس دقائق، لم تتمكن المحامية من الحصول على أكثر من دقيقة واحدة للترافع، التمست أن يتم اخلاء سبيلنا بأي كفالة تقررها المحكمة،. القاضي لم يستجب، قرر تأجيل المحاكمة إلى 14 تموز/يوليو 2011. عدنا للحوض الجاف، كان قد تم الإفراج عن الطاقم الطبي المتهم بالجنح. بقيت كذلك حتى 2 تموز/يوليو، حيث تم الإفراج عني ومعي ولداي.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus