يغيب عنه الشيخ عيسى قاسم والشيخ علي سلمان لأول مرة: تاريخ الصلاة المركزية ليلة عاشوراء في المنامة منذ 1988
2015-10-23 - 7:21 م
مرآة البحرين (خاص): في العام 1992 سافر الشيخ عيسى قاسم إلى مدينة قم، لإكمال دراسته في الحوزة الدينية. كان قاسم يؤم الصلاة في مسجد الخواجة بالمنامة، وكان يفترض أن يخلفه فيها، الشيخ علي سلمان، لكن الأخير اعتقل، ثم نفي إلى لندن، فترة انتفاضة التسعينات.
ظلت المنامة خالية من كليهما حتى العام 2001، حين عادا إلى البلاد، إثر ما يسمى بـ"المشروع الإصلاحي".
فور رجوعه للوطن، عاد آية الله قاسم إلى ليلة العاشر من المحرم، بمسجد الخواجة. كان هناك جيل جديد، لم يعرف الشيخ، سوى من خلال صوره وكلماته في المنشورات، ومما يقوله الناس. لم يعرفوا أنه الإمام المتميّز لهذه الصلاة في هذه الليلة، وأنه خطيبها، وأن الناس كانت تحتشد لها خصيصا، منذ الثمانينات.
خطاب 2001
خطب آية الله قاسم في جموع المعزّين، الذين لم يتّسع لهم المسجد، فجلست صفوف قليلة في الشارع المحاذي للباب الخارجي، وركّبت سمّاعة للنساء اللواتي تواجدن بأعداد قليلة أيضا، في خيمة محاذية.
كانت ربّما المرّة الأولى التي يستمع فيها هذا الجيل إلى عالم دين بحريني يخطب عن الحسين، من غير قرّاء المنبر. ألقى الشيخ خطابا استثار به حماس المعزّين، هو يخرج عن هدوئه وهيبته ليلة عاشوراء، صاح بصوت عال: حسين، حسين، حسين، ثم قام ينادي بهتاف عاشوراء المعروف: هيهات منا الذلة.
سيتبيّن اتّجاه هذا الخطاب، وأهمّيته، في السنوات اللاحقة. سيحشد له إعلاميا، باستخدام كافة القنوات والوسائل، الإلكترونية، المرئية، والمطبوعة. ستنتشر في المنامة بوسترات كبيرة تجمع صورة الشيخين عيسى قاسم وعلي سلمان، وتحمل إعلانا عن: الصلاة المركزية ليلة العاشر!
ستكون الصلاة في الأعوام اللاحقة على طول امتداد شارع الإمام الحسين، وفي الطرق المحيطة بمسجد الخواجة، وسيخصص مأتم العجم ومسجد مؤمن للنساء. سيصلّي داخل المسجد الشيخ عيسى قاسم، وسيؤمّ المصلّين خارجه الشيخ علي سلمان.
ثم سيعيد المعزّون التجمّع لمواجهة شاشة عرض، ومسرح مصغّر، ومنصّة، تنتظر خروج آية الله قاسم من المسجد، الخروج الذي صار يحاط بهيبة كبيرة، ويستقبل بتكبيرات مهيبة تضجّ لها المنامة. بلغت أعداد الناس التي تحضر الآن الآلاف. كلهم ينتظرون خطابا عاشورائيا ثوريا يرتبط بالواقع بلا مواربة، ويكون بمثابة إعلان لموقف الطائفة الشيعية في البحرين من أهم الأحداث والتطورات، محليا ودوليا.
سيكون خطاب ليلة عاشوراء خطابا للتحشيد، والتعبئة السياسية، وبث الحماس.
يمكن لهذا المشهد أن يقول بأنه لم تكن هناك صلاة مركزية في المنامة ليلة عاشوراء، إلا بعد 2001.
الوضع لم يعد مثل الثمانينات، حين كان قاسم يمثّل ربّما قائد تيّار، أو رجل دين معروف بنشاطه السياسي التاريخي (كان نائبا بالبرلمان في 1973). بدءا من 2001 سيتحوّل قاسم إلى عالم الدين الأبرز، والقيادة الروحية للطائفة الشيعية، أو "المرشد الروحي" كما تصفه بعض المواقع.
سيكون الشيخ عيسى قاسم رسميا منذ ذلك الوقت: آية الله. وستتحول الصلاة في المنامة إلى: مركزية!
خطاب 1988
يعيدنا خطاب ليلة عاشوراء، الذي وصل إلى منعطف مهم اليوم، إلى بداياته الأولى، في العام 1988.
أحد الذين حضروا خطاب الشيخ عيسى قاسم الأول، في ليلة عاشوراء، بمسجد الخواجة في المنامة، روى لـ"مرآة البحرين" حكاية هذا الخطاب الأثير.
"كان الحضور يضج البكاء، في هذا الخطاب ألقى الشيخ كلمته المشهورة عن معسكر الحسين ومعسكر يزيد (معركة كربلاء قائمة بطرفيها اليوم وغداً. في النفس.. في البيت.. في كل ساحات الحياة والمجتمع.. وسيبقى الناس منقسمين إلى معسكر مع الحسين (ع) ومعسكر مع يزيد فاختر معسكرك)* وهي الكلمة التي لا تزال تستعاد حتى اليوم. لقد أثرت بي هذه الكلمة كثيرا".
يضيف الشاهد "الجو السياسي كان مرتبطا بنهاية الحرب العراقية الإيرانية، وتواجد القوات الأمريكية والأسطول الخامس في الخليج، كل ذلك كان حاضرا في خطاب الشيخ... حين خرجت من المسجد كنت أبحث عن حصى أقذف بها أي أمريكي أراه في طريقي".
يقول إنه سجل الخطاب في شريط "كاسيت"، وظل يستمع لهذا الشريط سنوات عدة. استمع له عشرات المرات، وكان يسترجع الخطاب دائما، ويحفظ كلماته.
هذا الخطاب أثّر في كثيرين على ما يبدو، وقد وجدنا أن أكثر من مدوّن قد ذكره في مداخلات. يقول أحدهم في مشاركة على "بحرين أون لاين"، إن الشيخ كان ينادي "من هو عدو الأمة يا أمة" وإن الجماهير كانت تهتف "الموت لأمريكا"، وهو الشعار الذي أطلقه مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، الراحل الإمام الخميني.
كان السبب الرئيس لهذه الفورة، هو حادثة إسقاط فرقاطة حربية أمريكية لطائرة إيرانية مدنية متوجهة إلى دبي، وهو حادث سبّب ضجّة كبيرة عالميا، بعد أن أودى بحياة 398 شخصا بينهم العديد من الأطفال.
زاد هذا الحادث من تنامي العداء للولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا بعد فضح موقفها الذي كان مناصرا لصدّام حسين في حربه على الجمهورية الإيرانية.
في هذا الخطاب أيضا، أطلق الشيخ عيسى قاسم مسمّى "الخليج الإسلامي"، مطالبا برحيل القوات الأمريكية، ومهاجما الدول التي تدور في الفلك الأمريكي.
يرى كثيرون إن هذا الخطاب كان تاريخيا، خصوصا وأنّه كان في ظل قانون "أمن الدولة" المرعب.
تقارير السفارة الأمريكية عن خطاب عاشوراء
لقد دشّن الشيخ عيسى قاسم مشروع الصلاة المركزية، قبل 13 عاما، وستكون عاشوراء من 2001 فصاعدا، بوضوح معلن، إعلان موقف سياسي من كافة القضايا، محليا ودوليا.
ستراقب السفارة الأمريكية عاشوراء بشكل دقيق جدا، وسترسل تقارير سرية سنويا عن خطاب عاشوراء، وعن إحياء عاشوراء، في البحرين، وفي المنامة على وجه الخصوص. ستحلل هذا الخطاب، وستعلّق عليه، وستبحث عن آفاقه وما يعطيه من مؤشّرات، أو ينبّئ به من توقّعات.
أوردت برقيات السفارة الأمريكية اسم الشيخ عيسى قاسم أكثر من مرة في تقاريرها عن عاشوراء، وحذّرت كثيرا من مهاجمته الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، بعد مواقفها من الحرب على غزة (2008-2009)، كما أوردت اسم الشيخ علي سلمان كذلك، خصوصا دعوته إلى عدم رفع أي صور أو شعارات أجنبية.
خطاب عاشوراء بعد ثورة 14 فبراير
في ديسمبر/كانون الأول2011، كان قد مر على خطاب عاشوراء المركزي 10 سنوات. وكان ذلك الخطاب الأول في زمن الثورة.
وسط السوق القديمة، كانت الناس متلهّفة لخطاب الشيخ عيسى قاسم، الذي كان لمجمل خطاباته في الثورة دور كبير وحسّاس جدا، استدعى هجوما رسميا عليه من قبل النظام. فور وصول الشيخ هتفت الجماهير بصوت عال "هل من ناصر مقاوم... لبيك عيسى قاسم". في هذا العام بدأت مرحلة جديدة، من مراحل خطاب عاشوراء المركزي.
كان يتوقّع أن يكون الخطاب حدثا كبيرا، بالنظر إلى الخلفية التاريخية للصلاة المركزية وخطاب عاشوراء، وبالنظر إلى المرحلة الحرجة التي تعيشها البلاد. بثّت قناة المنار اللبنانية التابعة لحزب الله، خطاب الشيخ عيسى قاسم على الهواء مباشرة، وذلك في سابقة من نوعها، أعطت زخما إقليميا كبيرا للخطاب.
لكن الشيخ قاسم، لم يكن ينوي التصعيد، ولا التأجيج. جاء خطابه (مدوزنا) بدقة. جاء بعيدا عن حالة إثارة الحماس وإلهاب المشاعر. في حين كانت تاريخيا شعارات هذا الخطاب ثورية دائما، كان أبرز شعار هتف به الشيخ في ذلك العام "إخوان سنة وشيعة... هذا الوطن ما نبيعه".
في ذلك العام أيضا بدأت السلطات باستهداف مراسم عاشوراء، ضمن حملة القمع. أرسل الشيخ رسائل تحذيرية قويّة في هذا الصدد، ورفع صوته بالصراخ "النفوس رخيصة من أجل الشعائر" وقال أيضا إنكم "لم تدركوا ما عليه هذه الجماهير المؤمنة من روح تضحية وفداء لشعائرها".
برّأ الشيخ "السنّة" من مسئولية الاعتداءات على مواكب وشعائر المحرق، وشدّد كثيرا على أنّه "لا انجرار للطائفية والاقتتال بين المسلم وأخيه المسلم" وحذّر بجدّية كبيرة من "محاولات السلطة "تحويل الحراك من خلال هذا الأسلوب إلى نزاع طائفي".
سياسيا، خصص الشيخ قاسم دقائق للحديث عن ثورة 14 فبراير "أي تهديد أو وعيد للتراجع عن المطالب السياسية لا قابلية للاستجابة له على الإطلاق".
الشيخ علي سلمان
كان لأمين عام جمعية الوفاق، وزعيم المعارضة البحرينية، الشيخ علي سلمان، دور كبير في خطاب عاشوراء منذ 2001. صورته كانت تنشر مع صورة قاسم دائما، لكنّه لم يرتق منبر ليلة عاشوراء سوى في العام 2006. في هذا العام كان هناك أيضا نوع من التحوّل في خطاب عاشوراء.
بدءا من هذا العام، بدأ توجّه الخطاب (في حالة كان الخطيب هو الشيخ علي سلمان) يكون مركّزا بشدّة على الداخل البحريني، ويكون سياسا مفصّلا، مباشرا، وصريحا. في خطاب عاشوراء 2006 تحدث الشيخ علي سلمان عن الانتخابات النيابية التي قررت الوفاق المشاركة فيها لأول مرة.
في يناير/كانون الثاني 2010، عاد سلمان أيضا وبشكل طارئ إلى خطاب عاشوراء المركزي، بعد مرض الشيخ عيسى قاسم. كان للشيخ علي سلمان هو الآخر مشاركاته العاشورائية بخلاف هذا الخطاب، فقد حل محل الشيخ الجمري في إمامة الجماعة بالسنابس بعد العزاء المركزي يوم العاشر، وإلقاء خطاب قصير بمأتم بن خميس التاريخي.
بعد الثورة، وتحديدا في 2012، ارتقى الشيخ علي سلمان منصة المنامة من جديد، خطيبا لعاشوراء. لم يكن السبب معروفا، لكن مراقبين رأوا أنه ربما برزت حاجة لخطاب من نوع خطاب الشيخ علي سلمان، السياسي المكثف والمباشر، في عاشوراء، خصوصا بعد أكثر من عام ونصف على الثورة.
ظهر الشيخ علي سلمان في هيئته الثورية، قائدا سياسيا للمعارضة، ومحشّدا لجماهيرها، موظّفا مبادئ عاشوراء في ذلك بشكل مباشر. قال في 2012 "كلما كان هناك استبداد، وكان هناك انحراف، كان هناك حسين".
في آخر خطاب عاشورائي، نوفمبر/تشرين الثاني 2014، وبشكل غير معلن أيضا، ارتقى الشيخ علي سلمان منبر عاشوراء مجددا، وألقى خطابا حادا جدا، شاملا ومباشرا، صعّد فيه من لهجته ضد النظام، وخاطب فيه المجتمع الدولي، وكان ذلك من الخطابات الجماهيرية الأخيرة له قبل اعتقاله في ديسمبر/كانون الأول 2014***
خطابات الشيخ علي سلمان، حوّلت عاشوراء والصلاة المركزية إلى منبر للحديث عن مفاهيم كـ"الديمقراطية" و"إنهاء الاستبداد" و"الملكية الدستورية" و"مقاطعة الانتخابات" و"الحكومة المنتخبة". خطاب عاشوراء على يد الشيخ علي سلمان، بلغ أوجه كخطاب سياسي ثوري صريح، وصار أيضا أشبه بخطاب حالة، لثورة 14 فبراير.
من سيكون خطيب الصلاة المركزية في عاشوراء هذا العام؟
متأخّرا أعلن عن إقامة الصلاة المركزية ليلة عاشوراء في المنامة، عبر شبكات التواصل الاجتماعي. حوى الإعلان صور الشيخ عيسى قاسم والسيد عبد الله الغريفي والشيخ علي سلمان.
خطاب عاشوراء والصلاة المركزية، أداة دينية وسياسية واجتماعية، استغلّت بشكل قوي وفعّال جدا منذ ما يقارب 30 عاما.
وسط غياب الشيخ عيسى قاسم عن إمامة الجمعة منذ مدة طويلة (بسبب المرض)، وفي ظل اعتقال الشيخ علي سلمان، صار منبر عاشوراء شاغرا. ومن غير المعلوم من يمكن أن يسد مثل هذا الفراغ الكبير، بعد أن أخذ خطاب عاشوراء كل هذا البعد التاريخي منذ 1988؟
هامش:
* هي الكلمة ذاتها، التي نشرتها جمعية التوعية الإسلامية في لافتة كبيرة بأحد الشوارع في 2006، وأزالتها السلطات بعد حملة إعلامية ضد الشيخ عيسى قاسم، تزعمتها صحيفة الوطن، والسلفي جاسم السعيدي.
** أنظر تقرير مرآة البحرين عن الدور التاريخي للمنامة كمركز ديني وسياسي.
*** فيديو الخطاب.