إميل نخلة ينعى جاسم مراد: حمل جاسم مراد شعلة البحرين الحديثة...تركت وفاته فراغًا في تاريخ البحرين
إميل نخلة - 2019-01-20 - 9:02 م
بفائق الحزن، أكتب التأبين هذا لصديقي العزيز جاسم محمد مراد. فقد ذهلني نبأ وفاته عندما تلقّيته من صديقٍ بحرينيّ لي يومئذ.
وإنّه ليس بتأبين ينعى رحيل جاسم بل يحتفي بحياته الغنية والكريمة. التقيت بجاسم قبل 47 سنة عندما أُرسلت إلى البحرين في خريف العام 1972، بصفتي عالم رئيس في برنامج فولبرايت الأميركي، لإجراء بحث لكتاب حول نشأة الدولة البحرينية الجديدة، التي نالت استقلالها قبيْل عام في سنة 1971. وكان الرجل اللطيف، والمثقّف، والبصير، والكريم هذا من أوائل الناس الذين التقيت بهم حين وصولي. وفي أثناء حضوري جلسات المجلس التأسيسي جميعها، التي شكّلها الحاكم الراحل الأمير عيسى بن سلمان آل خليفة لخط دستور للبلاد، نال جاسم مراد، العضو المنتخب في المجلس، إعجابي لعلمه، وكرامته، وفضوله، وأفكاره، ورغبته في العمل مع الأعضاء الآخرين في سبيل مصلحة البلاد. وكان رجل أعمال ذو فكر متحرّر، يُؤمن بأنّ لكل بحريني الحق بأن يعيش حياة كريمة بصرف النظر عن انتمائه الديني أو الطائفي أو العرقي. وكلّما تفاعلت معه وعدد قليل من زملائه أكثر، زاد أملي في مستقبل البحرين بفضل رجالٍ كجاسم. وفي أحد الأيام، تحدّثت مع رئيس وزراء البلاد حول مستقبل البحرين كدولة ليبرالية إصلاحية حديثة في الخليج، وأخبرته أن جاسم مراد وأمثاله يعطون أملًا بأنّ البحرين على المسار الصحيح.
وكان يؤمن بأنّ للبحرينيين الحق في حرية التعبير، والتجمّع، والتفكير، وبأنّ جميع المواطنين سواسية أمام القانون. كما كان يؤمن بأنّه على قادة البلاد الحكم من خلال التشاور مع الشعب وأن يكونوا عرضة للمحاسبة. وباعتبار البحرين بلد صغير ذو موارد نفطية هزيلة، آمن جاسم بأنّها قادرة على أن تصبح النور المُشرق و"المدينة على التل" بالنسبة لبقية دول الخليج. وكان يعتقد أنّ البحرين قادرة على تحقيق المقام هذا بفضل التعليم، والابتكار، والسياسة الاقتصادية المستنيرة، والعلاقات الودية مع جيرانها.
وبدأت جلساتي اليومية مع جاسم في متجره في السوق القديم، حيث كان يلتقي بي وبثلّة من الأصدقاء في حوالى الساعة الرابعة أو الخامسة عصرًا، ونحتسي القهوة ونناقش القضايا على أنواعها. ومن ثمّ كنّت أذهب معه للمشي في نزهته اليومية مسافة ميل أو ميلين، لينتهي بنا الأمر في منزله المرحِّب لتناول وجبة من الطعام والاجتماع مع العائلة. فتمكّنت من التعرّف على زوجته وأسرته الكريمة. كما أصبح أخوه علي وأسرته الجميلة أصدقاء مقرّبين لي. وجعلوني أشعر كأنني فرد من أفراد آل مراد. وقد دامت الصداقة تلك طوال هذه السنين على مدى عقود حتى وفاته عن عمر يناهز الـ 89 سنة في 10 يناير.
وكان جاسم كنزًا للمعلومات، ونهمًا في القراءة، وفضولي للغاية. وكان يحب التعلم والغوص في المواضيع كافّة، من السياسة والدين إلى الاقتصاد. وأثناء المناقشات التي دارت في جلسات المجلس التأسيسي، كان جاسم يستشهد في كثير من الأحيان بكتابات خبراء القانون الغربيين والعرب لشرح ما إذا كان ينبغي اعتماد مادة معينة أم لا. وينسب معظم البحرينيين الذين تابعوا المناقشات في المجلس التأسيسي وشهدوا إنجاز دستور 1973 جزء كبير من النجاح إلى جاسم مراد وقليل من زملائه. وقد شاركت جاسم وأصدقائه في احتفالهم بإصدار الوثيقة الجديدة من الأمير الشيخ عيسى. وكان دستور العام 1973 شهادة على الحكم الصالح الذي كان المبدأ التوجيهي فيه هو المشاركة في صنع القرار.
وبإمكاني أن أتخيّل ما كان يشعر به جاسم في السنوات الأخيرة عندما شهد انهيار النظام الدستوري للحكومة الذي بناه الشيخ عيسى، والاعتداء على الحكومة الاستشارية، والانقسامات العميقة داخل المجتمع البحريني. فقد تلاشى النور المُشرق من "المدينة على التل" ، وشحب بريق "لؤلؤة الخليج".
حمل جاسم مراد شعلة البحرين الحديثة. وقد شعرت بالفخر والامتياز لمعرفتي به طوال هذه السنوات، ولعدّه من أعز أصدقاء العمر. لقد تركت وفاته فراغًا واضحًا في التاريخ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الحديث للبحرين. وداعا يا صديقي جاسم، بأمان الله.
*أستاذ باحث في جامعة "نيو مكسيكو"، ومسؤول سابق في جهاز الاستخبارات الأميركية