"القمع السياسي في البحرين": التعذيب والاعتقالات وانتهاكات أخرى للسّلامة الشخصية (مقتطف من الفصل الرابع)

غلاف كتاب
غلاف كتاب "القمع السياسي في البحرين" لمارك أوين جونز

مارك أوين جونز - كتاب - 2020-08-07 - 11:38 م

ترجمة مرآة البحرين

في مقابلة أجراها معه موقع جدلية، يتحدث مارك أوين جونز عن كتابه الجديد "القمع السياسي في البحرين"، فيرى أنّه يقدم "رؤية ثاقبة مثيرة للاهتمام حول "مُشَرّعي" القمع، هؤلاء الأشخاص المنخرطين بشدة في تحديد السياسة القمعية. وبالتالي، يكشف عن دور المسؤولين البريطانيين ومسؤولي آل خليفة، المثير غالبًا للقلق، في تسهيل بعض أساليب القمع، سواء كانت ضد الحركات النقابية أو القوميين العرب". ويضيف جونز أن الكتاب "يستكشف عددًا من حلقات الخلاف من عشرينيات القرن الماضي حتى العام 2011" لافتًا إلى أنه "يقارن كيف قمع نظام آل خليفة مجموعة واسعة من الحركات، من الحركات الديمقراطية والقومية التي وُلِدت في الثلاثينيات والخمسينيات، إلى حركة اليسار المتزايد في السبعينيات، وكذلك الحركات الإسلامية بعد الثمانينيات.

وقد نشر موقع جدلية جزءًا من الفصل الرابع من الكتاب. إليكم نصه كاملًأ:

"قُتل ثمانية معتقلين سياسيين في الاحتجاز بين العامين 1976 و1986. وذكرت منظمة العفو الدولية، وكذلك المجموعة البرلمانية لحقوق الإنسان في بريطانيا، أنّه يُعتَقَد أنّ ستة منهم على الأقل قُتِلوا نتيجة للتّعذيب. وهذا يعني أن الوفيات، التي عُرِف أنها ناجمة عن التعذيب، بدأت بعد الاستقلال. تناول البريطانيون، الذين كانت لهم اتصالات ممتازة مع جهاز الشرطة عبر إيان هندرسون، بعض حالات القتل هذه. وكان أول من أُطلِق عليه اسم "الشهيد الشيعي" جمال علي (الشيخ جمال العصفور)، الذي قُتل في حجز الشرطة عام 1980. وأفادت صحيفة جلف ديلي نيوز المحلية، الصادرة باللغة الإنجليزية، أن جمال علي توفي بسبب الفشل الكلوي نتيجة لسوء الحالة الصحية. (وبالمثل، في العام 2011، أشارت وكالة أنباء البحرين إلى أن كريم فخراوي، الذي تبين أنه تعرّض للتعذيب، مات أيضًا بسبب الفشل الكلوي). لم يقتنع البريطانيون بتقارير جلف ديلي نيوز. في الواقع، أقروا بأن "علي كان على الأرجح" طرفًا بريئًا"، و"صُعق بالكهرباء" و"تعرض للضّرب خلال الاحتجاز" حيث "توفي لاحقًا متأثراً بجراحه". كما لم تقتنع مجموعات المجتمع المدني برواية الخطاب الحكومي. وادّعى اتحاد العمال البحريني أن جمال علي اعتُقِل وعُذِّب بسبب أنشطته النقابية. وعلى الرغم من معرفة البريطانيين بتعذيبه،  رُفِضَت شكوى الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين المُقَدّمة  لمنظمة العمل الدولية حول وفاة علي في العام 1981 جزئيًا بسبب رواية الحكومة التي تفيد بأن "علي كان يعالج في مستشفى السلمانية بسبب" حالة مرضية في الكلى المتوقفة عن العمل. حتمًا، لم يتمكن الاتحاد العام لنقابات عمّال البحرين من إثبات ادعاءاته من دون أدلة.

في معظم حالات الوفاة بسبب التعذيب، لم يكن هناك تحقيق داخلي أو غير ذلك. في ثلاث حالات بين العامين 1976  و1986، خلُصَت التحقيقات إلى أنّ المتوفى قد توفي بسبب انتحار أو مرض طبي -وهو عذر شائع يُستَخدَم لإعفاء الأجهزة الأمنية من المساءلة. في الغالب، سعت الحكومة لإخفاء أفعالها. في العام 1981، تعرض محمد حسن مدن، البالغ من العمر 23 عامًا، للضرب حتى الموت على يد ثلاثة من رجال الشرطة في مركز شرطة المحرق. أدّت ظروف وفاته إلى احتجاج شعبي. في الاحتجاجات التي تلت ذلك، دهست الشرطة وقتلت عادل حسن الخوخي، البالغ من العمر تسع سنوات. ويُقال إنّ جثتي مدن وخوخي دفنتا في قبرين سريين، وإنه لم يتم عمدًا الإبلاغ عن حادثة خوخي خوفًا من إثارة المزيد من الغضب. في الواقع، ربما لا يوجد مثال أكثر وضوحًا هنا على الكيفية التي يُوَلّد بها التعذيب الغضب، وهو ما يولد المزيد من القمع.

الشهيد محمد حسن مدن

 

هناك عدد من العوامل التي يمكن أن تفسر بشكل أفضل تصاعد التعذيب. بالإضافة إلى الشعور المتزايد بالضعف، الذي أحدثه استقلال البحرين في العام 1971، كان هناك تحول ملحوظ في السلطة في وزارة الداخلية مَكّن المتشددين داخل الأسرة الحاكمة. وحدّد هارولد ووكر، السفير البريطاني آنذاك، هؤلاء المتشددين بأنهم رئيس الوزراء ونخبة من التّجار تضمنت عائلتي المؤيد والزّياني. تم إبراز التصرف القسري لهذه النخبة تجاه إجراءات المعارضة في العام 1974، عندما "اعتقدت الحكومة والطبقة التجارية أن الوقت قد حان لتُحكِم قبضتها" ضدّ أي اضطرابات.

أبدى رئيس الوزراء نفسه كراهية شخصية للشيعة، وهي مشاعر كانت من دون شك ذات أهمية في زيادة القمع، خاصة ضد البحارنة في البلاد. التحول في السلطة إلى هؤلاء المتشددين  رافقه تضاؤل طبيعي في التأثير البريطاني على الأجهزة الأمنية. بحلول العام 1973، أفيد أنّه كان لرئيس الوزراء الكلمة الأخيرة في قضايا الأمن الداخلي والسياسة الخارجية الأساسية، وأبقى الشرطة والفرع الخاص "عن كثب تحت سيطرته". كان البريطانيون لا يزالون ممثلين تمثيلًا جيدًا في الشرطة البحرينية، ولكن يبدو أنّه لم يكن لهذا الأمر تأثير يُذكَر على انتهاج الاعتدال في التعذيب. تعترف المراسلات الخارجية، التي أيدتها رسائل وزارة الخارجية الأمريكية من السبعينيات، بانخفاض تأثير رئيسي الشرطة البريطانيين، جيم بيل وإيان هندرسون. وأفادت السفارة البريطانية أنّه:

"قبل عامين، كان رئيس الشرطة ورئيس الفرع الخاص، وكلاهما بريطانيان، مباشرة تحت رئاسة رئيس الوزراء، وكانا بشكل وثيق وواضح على اتصال منتظم وثابت به. الآن، بالكاد يرونه، لكنهم يعملون مع وزير الداخلية البحريني الذي يتمتع لحسن الحظ بضمير حي، ويعمل بجد. رئيس الشرطة هو الآن "المدير العام لجهاز الأمن الوطني"، وهو يقدم المشورة والإدارة من الكواليس، بدلاً من ممارسة رقابة تنفيذية مباشرة. لقد فقد الكثير من سلطته، وهو للأسف يقبل بذلك. لم يعد يُسمح لرئيس الفرع الخاص -الذي هو الآن، فوق كل شيء، مبعَد بالكامل -بالاحتجاز أو الاستجواب؛ لذا، يجب أن تعمل شبكته الاستخباراتية بوسائل أخرى، وقد تضاءلت قوة الردع ". (ر.م.تيش، 1 مارس/آذار 1975 ، FCO8/2415، الأرشيف الوطني [البريطاني]).

ونتيجة لذلك، "تم استبعاد هندرسون وبيل من مختلف مواقع القيادة الخاصة في النفوذ". ومع ذلك، لا يزال ينظر إليهما على أنهما "ذات أفضلية لا تُقَدّر بثمن من الناحية العملية"، إذا قدّما، وفقًا لأحد المسؤولين البريطانيين، بتقديم بعض الضمانات بشأن الحفاظ على القانون والنظام على الرغم من تجدد القوة المحافظة لآل خليفة.

تمّ تعزيز هذا التحول إلى المتشددين في العام 1976. وقد أدى مقتل محرر الصحيفة الشيخ عبد الله المدني في العام نفسه إلى الإلغاء الفعلي لنفوذ هندرسون، ورفض سياسة تقودها الرقابة، كانت تفرض القيود حتى الآن على الاستجواب والتعذيب. تذرّعت السلطات البحرينية بمقتل المدني لتبرير حملة قمع ضد الجماعات السياسية اليسارية في البحرين. كما استخدمته أيضًا لإلغاء سياسة كانت تمنع سابقًا أهداف التخريب من الاعتقال وبالتالي التعذيب. ووفقًا لما أشار إليه إدوارد جيفين، فإن "القتل" أزال القيود المفروضة على استجواب مشتبهين في الجبهة الشعبية ومكّن الشرطة من الحصول على صورة أوضح من  سابقاتها عن عملياتها وأنشطتها [الجبهة الشعبية]. قبل ذلك، كان "غياب استجواب المشتبه بهم يعني أن الشرطة لم تتلقَ إلا كمية المعلومات الاستخباراتية التي كانت مصادرها في جبهة التحرير الوطنية ترغب بتقديمها لها".

تأثير هذا التغيير في السياسة كان فوريًا. قُتل بحرينيان هما محمد غلوم بوجيري وسعيد العويناتي نتيجة للتعذيب في أعقاب اعتقالهما. وعلى الرغم من أن محاكمة المشتبه بهم الأحياء المتبقين في قضية القتل لم تكن آمنة تمامًا، فقد تم استخدامها كذريعة لقمع المعارضة السياسية. كما حصلت المحاكمة في وقت أفيد فيه أنّ العائلة الحاكمة "أغلقت المراتب" وركّزت في أيديها على حد سواء المناصب الحساسة سياسيًا مثل الأمن وكذلك المناصب المتعلقة بالشؤون الاجتماعية. ومرة أخرى، تعارض هذا مع توصيات تقرير تورنبول، الذي دعا إلى "إزالة السيطرة المباشرة من أيدي أعضاء العائلة الحاكمة". وباختصار، فإن السبعينيات مثّلت إحكام القبضة من قبل المتشددين على الجهاز الأمني​​، وهو عامل ارتبط، بل وعلى الأرجح تسبب، بزيادة التعذيب.

الأحكام التشريعية لمرسوم أمن الدولة، الذي تم إدخاله قبل عدة سنوات، سهّلت وحفّزت أيضًا تعذيب السجناء في البحرين. يمكن احتجاز المعتقلين بعيدًا عن العالم الخارجي لأشهر، أو حتى لسنوات، بمعزل عن العالم الخارجي، مع عدم إمكانية وصولهم إلى محامٍ حتى وقت محاكمتهم، وحصولهم فقط على زيارات غير متكررة من أسرهم. كما سمحت الأحكام التي تضبط المحاكمة أمام محكمة الاستئناف المدنية العليا للمحكمة بأن تبني حكمها فقط على الاعترافات الممنوحة للشرطة، أو حتى على شهادة الشرطة وحدها (حتى في غياب الشهود). في الثمانينيات، سُمِح بالاعترافات كأساس وحيد للإدانة، حتى لو لم يتم إثباتها. وفي هذا الإطار، تمّت زيادة حافز استخدام التعذيب لدى الشّرطة. لقد كانت وسائل فاعلة لانتزاع الإدانات في الوقت المناسب. كان هناك القليل من الضمانات التي تؤكد أنّه سيتم أو يمكن تجاهل أدلة مماثلة في المحاكم.

بالإضافة إلى قانون أمن الدولة الجديد، عزّزت قضية المدني التحول من نهج جمع المعلومات الاستخبارية إلى نهج شجع على استجواب المُشتَبَه بهم وتعذيبهم. وفي حين عكس هذا التحول اختلاف الرأي في التكتيكات بين هندرسون وآل خليفة، إلّا أنه أصبح في النهاية روتينيًا، وبالتالي أنهى ما وصفه جيفن بأنه "انعدام في وجود سياسة متماسكة" في التعامل مع المعارضة السياسية. وما تأرجح سابقًا، وفقًا لـ "جيفن"، "بين الخمول والحماس المفرط"، فشل الآن أكثر من ناحية الحماس المفرط.

بعد زيادة التعذيب، رغبت السفارة البريطانية في البحرين في إقناع البحرينيين بأن مثل هذه الطريقة لم تكن "غير مرغوب بها أخلاقيًا" فحسب، بل كانت أيضاً هزيمة ذاتية. استخدم [البريطانيون] مثال السافاك (منظمة سرية لجمع المعلومات الاستخباراتية في إيران، وهي معروفة بمعاملتها الوحشية للمعارضين) لتوضيح وجهة نظرهم. ومع ذلك، كانوا أيضًا مترددين في إزعاج آل خليفة من خلال انتقاد أساليبهم في ضبط الأمن. انعكس هذا التردد بانعدام التّأثير، وأدى إلى تشعب في العمل بين الشرطة البريطانية والعربية".

النص الأصلي