الشيخ علي سلمان في مقدمة "مرافعة وطن": خطّ لنا بيده لحظاته الأولى في السجن ومثّل مشروع الإصلاح السياسي السلمي في البحرين

كتاب
كتاب

2021-12-30 - 2:03 م

مرآة البحرين (خاص): 

تنشر مرآة البحرين مقدمة كتاب "مرافعة وطن"، وهي مرافعة الأمين العام لجمعية الوفاق الوطني الإسلامية، الشيخ علي سلمان، التي استمرت كتابتها خمسة أشهر في السجن الاحتياطي، بالتزامن مع الحملة الإلكترونية التي انطلقت على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي مع هاشتاغ #FreeSheikhAli، في الذكرى السابعة لاعتقال سماحته، للمطالبة بالإفراج عنه.

وإليكم في ما يلي نص المقدمة: 

"إلى شعبي ..

 "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"

"في الأعم الأغلب، فإن المشاعر والأحاسيس الإيجابية هي الغالبة بشكل كبير عليّ منذ لحظة اعتقالي حتى اليوم 16 مارس/آذار 2015. هذه الأحاسيس والمشاعر الإيجابية أكثر بكثير من الحالة التي كنت عليها قبل السجن، ربما كثرة المشاغل والواجبات قبل السجن هي سبب لعدم الشعور بهذا القدر من الإيجابية التي أشعر بها داخل السجن، وربما، وهو المرجح، لطف من الله وإعانة منه".

لقد مثل الشيخ علي سلمان في حركته السياسية مشروع الإصلاح السياسي السلمي، ليس للدولة وسلطتها وأجهزتها فقط، بل للمعارضة الإسلامية، فقد تبنى مشروع الدولة المدنية الديمقراطية والملكية الدستورية، من دون أن يخرج على انتمائه الإسلامي، بل إنه انطلق من فهمه العميق لرسالة الإسلام في الإصلاح، وجعل من إيمانه الشخصي مصدرَ قِيَم للعلاقة مع المختلفين معه في المرجعية والدين والحركة والفكر، بل جعل من هذا الإيمان مصدرًا لأهم قيمة سياسية اليوم، وهي قيمة التسامح ليس مع المختلف فقط بل مع الخصم، وهذا ما سجله بخط يده في رسائله المُسَرّبة من السجن وفي أجزاء من مرافعته، يقول:"لم أختبر مشاعر كرهٍ تجاه من يقف وراء اعتقالي، وإن ترَسّخ لدي إيمان أعمق بقبح ما يفعلون، وبمدى الضرر الذي يوقعونه بحق الشعب والوطن جراء الظلم والاستئثار، كما ترسخ لدي إيمان أكبر وإصرار أعمق بضرورة مواصلة الحراك والمطالبة بإصلاح الأوضاع، لنعيش كبشر متساوين في البحرين، هذا الشعور بالاستمرار يخصني أكثر مما يخص الشعب".

لقد أمده هذا الإيمان العميق بالمطلق بقوة، ليست قوة الكره النابعة من التعصبات الدينية الضيقة، فتلك قوة مُدَمرة للحياة، بل هي قوة الإيمان الذي يجعلك تستصغر خصمك الذي لا يستطيع أن يجاري قوة ما يفيض فيك من حب وأريحية وتسامي، يقول الشيخ في إحدى رسائله "يفيض الله عليّ في بعض اللحظات بمشاعر من القوة إلى درجة أني أشعر معها بضعف وصغر خصومي في نفسي، وتغيب مع هذه المشاعر آثار أسباب القوة المادية المتوفرة لدى خصومي، وتبدو قوتهم كأنها لا شيء في نفسي".

أضاف الشيخ إلى منطلقه الديني الإسلامي وإيمانه الخاص، تجربة الانفتاح على نضالات الشعوب الأخرى التي عانت من مآزق تاريخية وظلم سياسي، فشكّل بذلك نموذجًا خاصًا وفريدًا، ولعلنا نفسر بهذه التركيبة التي تحققت في نموذجه أسباب شعوره بالإطمئنان والراحة التي يحدثنا عنها من سجنه: "أشعر أحيانًا بانشراح صدر كبير وسكينة، وطمأنينة فائقة وعميقة، فوق الحالة الاعتيادية من دون أسباب ظاهرة ومعروفة لي. يمكنني أن أصف مشاعري وأحاسيسي بالأعم الأغلب في الحب بالطمأنينة، والسكينة، والراحة، والسعادة"

ولعله في هذا الاطمئنان يسترجع لحظات وقوفه أمام زنزانة مانديلا التي كان يتأمل من خلالها حكمته "إما أن تكون حراً أو لا تكون". ويقول في ذلك: "خرج مانديلا من هنا، بحريته الكاملة، لا بنصف حرية، خرج ليحكم بعنوان المساواة التي طالب بها، لا الطبقية والعنصرية التي سُجن بسببها".

إحدى أهم التجارب التي انفتح عليها الشيخ علي سلمان، هي تجربة السّود النضالية، وقد شكّلت جانبًا من وعيه، وكان جنوب أفريقيا من بين الجهات التي قصدها في العام 2013، لتعميق وعيه في تجربة نيلسون مانديلا، هذا من جانب، ومن جانب آخر أراد أن يطلع على مشكلة هذه الجزيرة الصغيرة من منظار أكبر لرؤية مشكلة التمييز في البحرين من جانب إنساني، بعيدًا عن المناظير الطائفية التي خلقتها السلطة ضمن حملة انتهاكاتها الإنسانية مرة، وعلاقاتها العامة مرة أخرى.

 يبدو لافتًا الآن، أكثر من قبل، أن نعيد قراءة بيان جمعية الوفاق في نعي الزعيم مانديلا في نهاية 2013، كأنها كانت تخط سيرة أمينها العام، الذي اعتُقِل بعد عام من هذا البيان: "وكما نحن نناضل في البحرين ضد الدكتاتورية، نتذكر سلوك مانديلا الرافض لقبول الهزيمة، حتى عندما سُجِن. نحلم أنه سيأتي يوم ما يسير فيه سجناؤنا السياسيون في الشوارع كأبطال، كما فعل مانديلا. أعداؤه من النظام العنصري كانوا يصفونه بالإرهابي واليوم هو يُذكر كزعيم سياسي محب للسلام".

لن نكون بعيدين عن سيرة الشيخ علي سلمان أبدًا، حين نتحدث عنه من خلال تجارب نضال السود الذين أحبهم كثيرًا واستلهمهم كثيرًا. إحدى هذه التجارب تعود إلى مارغريت والكر، الشاعرة والأكاديمية الأمريكية السوداء، التي سطرت ملحمة شعبها في قصيدة "إلى شعبي":

إلى شعبي في كلِّ مكان

مُغنينَ أغاني العبيد بلا انقطاع :

مناحاتهم أناشيدهم كآباتهم وتهاليلهم ...

إن الحرقة التي كانت (مارغريت) تنطق بها وتطلق من خلالها نداءها (إلى شعبي) هي الحرقة نفسها التي ما زالت تعتمل في قلب الشيخ علي سلمان ولسانه وكل خلية في جسده. بقدر ما في هذا القلب من حرقة تعتصره، وتمنحه الحق بأن يخاطب شعبه، مضيفًا ضميره الشخصي إليه، فلا يحترق بها غير العاشق الحقيقي: إلى شعبي.

ما أعظمها من إضافة! وما أشقّها! وما أثقلها!

لسنا شعبه لأنه قائد الضرورة، ولا لأنه ولي الأمر، ولا لأنه منتخب من قبل أكبر حزب سياسي على مستوى الخليج، بل لأنه مثَّل ما يجعلنا شعبًا لا رعية، ولا عبيدًا ولا طلاب مكرمات ولا زبائن ريع. نحن شعبه بوعي الحرية السياسية التي دلنا على طريقها، ونحن شعبه بتقديم حريته قربانًا لحريتنا.

لا يمكنك أن تنال شرعية استحقاق إضافة هذه الضمير (ضمير الشعب) إلى نفسك، وتتحدث إليه أو عنه إلا حين تكون حيث تكون تطلعات حرية هذا الشعب، حين تستوعب كينونته التي تجعل منه شعبًا يطالب ويختار ويقرر ويَحل ويَعقد. تكون قائدًا تملك ضمير شعبك حين تمثل إرادته التعاقدية لا عُقدته التاريخية.

لاحظوا، كيف يمكن أن تكون هذه الإضافة بشعة ومزيفة ونشازًا، لو قال الملك: إلى شعبي. ستبدو وكأنها اغتصاب وسرقة، كأن هذا [الضمير] المُضاف (الملك) يسرق خلسة أو غصبًا صوت الشعب وإرادته، كما سرق أرضه وبحره وسمائه وتاريخه وهويته وإرادته. يمثل هذا المضاف وعائلته عقدة هذا الشعب التاريخية ، لذلك لا يمكنه أن يضيف ضمير الشعب إلى نفسه، إلا اغتصابًا.

إن الطريق الطويل الصعب الذي خاضه الشيخ علي سلمان، يهدف إلى تحويل هذه العقدة التاريخية المشحونة بذاكرة الاضطهاد إلى عقد تاريخي، وتلك مهمة دونها كل هذه الآلام التي لم تبدأ في 14 فبراير بل تكثفت فيه، فكان لها هذا الثقل التاريخي الكبير.

تمثل هذه المرافعة هذه الإرادة التعاقدية، وتحكي سيرة تاريخها النضالي وهي تشق طريقها نحو الحرية حيث السنوات المُحْتَملة بالآمال لا المقدرة بالآلام، مواجِهة عقدتها التاريخية، وهي سنوات استبداد عائلة آل خليفة، سنواتها الماضية والحاضرة الجاثمة.

"إلى شعبي مانحينَ قوَّتهم للسنوات،

للسنوات الماضية،

للسنوات الحاضرة والسنوات المُحتَمَلَة"

إنها سنوات هذا الشعب الماضية حيث زمن السخرة، والسنوات الحاضرة حيث زمن التمييز، والسنوات المُحتَمَلة حيث الزمن المفتوح على الثورة المحتملة المآلات. لقد صاغت السنوات الماضية بثقلها وظلاماتها قيادة الشيخ علي سلمان، فقد ورث تركتها بإرادة من يتحمل المسؤولية، قرأ سطور هذه السنوات على جبين هؤلاء المضطهدين، فحمل كرامات رؤوسهم فوق رأسه.

قرّر أن يكون قائدًا يفتح السنوات القادمة على المحتمل لا المُقَدّر، لقد قدّرت العائلة الحاكمة على هذا الشعب سنوات السخرة والتمييز، أرادت أن يكون هذا قدرهم بلا أمل في التغيير، وقرر هو أن يفتح هذا المُقدر على المحتمل من الممكن واللاممكن مستثمرًا قوتهم، قوة شعبه وقدرته على صناعة التغيير حيث السنوات المحتملة المُحملة بالحرية والكرامة والاعتراف والعدل وإرادة اتخاذ القرار، لقد صاغ معنى هذه السنوات أحد شعارات الحراك الشهيرة "ستعجزون ولن نعجز": لن نعجز عن ملاحقة هذه السنوات المشحونة بالمُحتَمل لا المقدر.

لقد أهدانا الشيخ علي سلمان أقوى ما يمكن أن نبقى من أجله، إنها "السنوات المحتملة". هي معادلة لذلك الحلم الذي منحه مارتن لوثر كنج في العام 1963 في خطابه "لديّ حلم" لسنوات السود المعبأة بيأس العبودية والتمييز والعنصرية. لقد أطلق الشيخ رصاصته على السنوات الماضية بأكثر من صيغة، إحداها في مهرجان الشعب صاحب القرار في ديسمبر 2012 "إن زمن العبودية وأن يبقى القرار لدى شخص واحد انتهى".

"إلى شعبي واقفينَ محدِّقينَ يحاولون أن يُشَكِّلوا طريقاً جديداً

لعالم من الفوضى، النفاق وسوء الفهم ،

يحاولون أن يشكِّلوا عالَماً يَضُمُّ كل الناس من كل الوجوه"

منذ حراك العريضة الشعبية والنخبوية في التسعينيات، بدأت قيادة الشيخ علي سلمان تتشكل، اقترن بروزه بانبثاق طريق المملكة الدستورية، لم تكن التسمية قد تبلورت، لكن الطريق الجديد بدأ بالمطالبة بعودة العمل بالدستور، لم يكن هذا الشاب قد انخرط في اجتماعات الكبار بعد، وهم يخططون لتحريك الشارع نحو طريق نضال جديد، لم يكن هناك أي أحد توقع أن قيادة شابة جديدة عشرينية قد بدأت تشق طريقًا جديدًا، العريضة التي لم يشارك الشيخ علي في اجتماعات صياغتها، شق لها شارعًا جديدًا من جيل التسعينيات، صارت شعارات الممالك الدستورية تكتب على جدران القرى: "البرلمان هو الحل"، "نطالب بالعودة لدستور(1973)".

هذا هو شعب (علي سلمان) الذي ربّاه وتربى من خلاله ومعه، وصولًا إلى دوار اللؤلؤة الذي صاغ (المملكة الدستورية) كمطلب سياسي واضح وجاد وقابل للتفاوض السياسي ومجمع عليه من قبل أغلب القوى السياسية الممثلة لتنوع شعب البحرين، من كل الوجوه.

من هنا، تمثل هذه المرافعة جزءًا من سيرة ذاتية نضالية سياسية فكرية للطريق الطويل للمملكة الدستورية، كما عاشه الشيخ علي سلمان منذ التسعينيات حتى اللحظة الراهنة المفتوحة على المحتمل من الخواتيم.

ليست اللحظة الراهنة وحدها، بل حتّى سيرة هذه القيادة مفتوحة على المآلات المحتملة التي  يمكن أن ينتهي إليها هذا الوطن.

"دَع أرضاً بِكراً تنهض

دَع عالماً جديداً يولد

ليولد أناسٌ آخرون

ليولد جيلٌ ملؤه الشجاعة"

كتب الشيخ علي سلمان فصلًا من سيرة الوطن في صيغة مرافعة، كتبها من هناك حيث يشارك الآلاف من أبناء شعبه محنة السجن، لقد خط لنا بيده لحظاته الأولى وهو يشرع في كتابة هذه المرافعة، يقول:

"في سجن صغير في مركز شرطة الرفاع الشرقي يتكون من أربع زنازين، طول الزنزانة الواحدة  متران وعرضها متران، يبلغ طول باب الزنزانة ذي القضبان الحديدية متران، وعرضه نصف متر، في الأعلى من الزنزانة نافذة على ارتفاع 160سم، طولها 25 سم وعرضها 25 سم خلفها زجاج ... تُفتح للتهوية .. بهذه الزنزانة سرير من طابقين طوله 180 سم. هناك دورة مياه مغلقة بباب من جهة الشمال للزنزانة، طول الباب حوالي 160 سم وعرضه 75 سم. لون الزنزانة بيج ولون أبوابها وقضبانها رصاصي. في هذا المكان وبعد جلسة المحكمة الأولى بتاريخ 25 يناير/كانون الثاني 2015، وُلِدَت هذه المرافعة، استمرت كتابتها مدة خمسة أشهر تقريبًا بالحبس الاحتياطي".

ما بين مخاض الولادة وبدء الحمل تاريخ طويل، هو تاريخ التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثّالثة والأعوام الأربعة من العقد الثاني من الألفية الثّالثة، التي هي أطول سنوات النضال البحريني وأقساها وأمرها.

إنها لحظة السجن، كان الشيخ ينتظرها ليخلو فيها مع ذاته، وليكتب سيرة القضايا التي رفعها ورفعته حتى صارت مرئية أمام العالم. كل ما في هذه المرافعة يشكل سيرة الشيخ علي الشخصية وقضيته الوطنية في الوقت نفسه، ليس هناك شيء في سيرته خارج قضيته، لقد كان شاهدًا في هذه المرافعة على أمه البحرين التي ولد من أمشاج تاريخ أرضها، وكان في الوقت نفسه شاهدًا على أمه المثكولة به وبأخوته: "ورأيت أنفاس والدتي المتقطعة من تعب ما لحقها من أذى في أولادها، فهي لم تخلُ طوال ثلاثين سنة من ابن مهجر، أو ابن سجين، وآخر عاطل عن العمل، وآخر يعاني آثار التعذيب طوال عمره".

ليس في هذه السيرة صغائر وكبائر، كل جزء فيها قطعة من مشهد الوطن، وسيرة الوطن ومحنة الوطن، وليس من عنوان يكثف امتدادها الطويل في الزمان والمكان أكثر من "شهادة وطن".

لم يحتمل قضاء بيت الحكم أن يسمع هذه الشهادة ولا أن يتسلمها، كانت ثقيلة على ضميره المثخن بالظلم والتزييف والنار. ثقيلة لأنها مشحونة بحرائق السيرة التي روت محن تاريخ هذا الوطن المفصلية. إنه تاريخ معبأ بأصوات من أودعوا ضميرهم المثخن بالجراح أمانةً في صوته، ليتحدث باسمهم وينطق بقوة تمثيلهم وإضافتهم ويقول: يا شعبي.

إنها مرافعة الشعب، بصوت من يمثل أعلى قيادة سياسية شعبية حصدت أعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات بمختلف أنواعها، إنه ينطق باسمهم جميعًا، وهو يمارس بهذا فعلًا سياسيًا، هذه المرافعة هي فقط  أحد إنجازات هذا الفعل.

ليست هذه المرافعة للتاريخ فقط، بل هي للحاضر، نحتج بها، ونشهد بها، ونحتكم إليها، ونبيّن بها قضيتنا ونحدد وفقها مطالبنا.

مقدمة مرافعة وطن بصيغة PDF