علي العكري في تجربة الأصعب: غزة، 14 فبراير، السجن

2012-10-03 - 5:55 م


مرآة البحرين (خاص): هذه الحلقات لم يُكتب لها أن تكتمل. قرار القبض كان أسبق منا وأنفذ.. الأربعاء 3 أكتوبر كان هو موعد جلستنا التالية مع الدكتور علي العكري. لكن نطق محكمة التمييز بتأييد حبسه لـ5 سنوات سبقنا في 1 اكتوبر، وتنفيذ قرار (القبض) سبقنا في 2 أكتوبر.

سننشر ما أُنجز منها، مما خصنا به قبل أن يصير في قبضة الجلاد مرة أخرى، وسنكمل معكم يوماً باقي تفاصيل الحكاية، بلسان العكري نفسه..

نعدكم بذلك، ونعد التاريخ.. نعدكم أن نبقى أوفياء، نكتب تفاصيل كل سيرة صنعت هذه اللحظة الوطنية التي ما زلنا نعيشها، فتاريخ 14 فبراير هو مجموع هذه السير.

* تمهيد..

"قرار أن تكون جزءاً من المعادلة هو الأصعب". بهذا أجاب العكري حين سألته عن اختياره الذي ذهب إليه بعد 14 فبراير.

في معادلة المظلوم والمستبد، يكون الاختيار تحدياً محفوفاً بالمخاطرة. يختار البعض أسلم الطرق وأسهلها: السلب. ويختار البعض الاصطفاف مع الأقوى الذي يؤمن له الحماية والحظوة. الأقل يختار الانحياز للمظلوم مهما كانت تبعاته وأثمانه الباهظة. منذ 14 فبراير كان لا بد للبحرينيين أن يختاروا.

منذ 14 فبراير كان لا بد لكل البحرينيين أن يختاروا، ليس مهماً ما أنت وما مهنتك وما موقعك وما وظيفتك، لم يعد ممكناً ألا تختار. الكادر الطبي لم يكن استثناء، لقد اختار الانصات لآلام الشعب، واختار أن ينحاز لهذه الآلام، وقد دفع ثمن هذا الانحياز وهذا الاختيار. 

أصعب ما واجهني في كتابة هذه السيرة، هو ترتيب مواعيد اللقاءات مع العكري، وقته صار مزدحماً بالمشاركة في الأنشطة والفعاليات السياسية والحقوقية المختلفة، بالإضافة إلى عمله في عيادته الخاصة. لم يكن كذلك قبل 14 فبراير، ولنكن أكثر دقة، ليس قبل دخوله المعتقل. كان طبيباً ذائباً في عمله وأسرته فقط، الآن صار ناشطاً. لا يخلو برنامجه اليومي من دعوات هنا وهناك، ومشاركات في الفعاليات والمسيرات. من الذي حوّله إلى ناشطٍ بهذا القدر؟ إنه النظام الأرعن. راكم عليه خصومة أكثر من نصف الشعب الذي ما عاد لديه ما يخسره أكثر، وخلق جيلاً جديداً من الناشطين السياسيين والحقوقيين، قوامه المهنيين الذين لم يكونوا يوماً أكثر من مهنتهم.

لسرد تجربته احتجنا لجلسات كثيرة. الجلسة الواحدة تستغرق قرابة 3 ساعات. يتقن العكري سرد التفاصيل الدقيقة بالساعات والتواريخ. لديه ذاكرة تجعلك تستحضر معه اللحظة وكأنك تراها بكل ما فيها من ألم وصراخ وعنفوان.

* لست دينياً ولا سياسياً..

نشأ علي العكري في عائلة يتجاذبها تياران: ليبرالي متطرف، وديني متطرف. جده الملا منصور هو مختار القرية، ولديه حسينية في المنطقة باسمه. عمه الشيخ محمد علي العكري، تعرض للسجن: "كان عمي لديه مشروع إصلاحي كبير، والدي الوحيد ذو الخط الليبرالي". هل كان العكري ليبرالياً مثل والده؟ يقول: "أنا اعتبر ضد التشدد من أي نوع كان. أميل إلى الجانب الديني أكثر من الانفتاح المحض. كنت في محيط عمي الشيخ محمد العكري".

درس في جامعة الموصل في بغداد خلال الأعوام 85-91. شهد حرب الخليج الأولى والثانية: "كنت رئيس اتحاد طلبة البحرين في الموصل، أحب العمل النقابي. عدد أعضاء الاتحاد حينها لم يكن يتجاوز 50 شخصا. لم أكن بعثياً ولم يطلب مني أن أكون كذلك. طلبة الجامعات العلمية غير ملزمين أن يكونوا بعثيين، فقط الكليات الأدبية عليهم أن يكونوا كذلك وفق قوانين الدولة حينها".

هل كان ذلك يعبّر عن توجه سياسي؟ ينفي: "لم يكن للاتحاد خطاً سياسياً، كانت لدي قناعة تامة أن شؤون الطلبة يجب أن لا تسيس. بالنسبة لي، الاتحاد كانت له قوة ويمثل حماية لنا كطلبة، يسهل أمورنا في حالات الغياب والسفر والحضور والإجازات".

بعد انتهائه من الجامعة، صار هم العكري الأول تكوين الشخصية المهنية بالإضافة إلى الحياة الأسرية. تعرف على الدكتورة فريدة الدلال في سنة الامتياز وتزوجا في 1994، ذهب ايرلندا عام 1999 ليتخصص في جراحة عظام الأطفال والقدم والكاحل 2002. التحق بالعمل مرة أخرى حتى صار استشارياً   في تخصصه 2004. في 2009 تمت ترقيته ليكون استشاري أقدم (سينيور) في مجال تخصصه.

حتى ذلك الوقت، لم يكن العكري يخرج عن دائرته الخاصة جداً في البيت والعمل: "صرت أسعى أن أكوِّن نفسي كجراح عظام وهذا تطلب امتحانات الزمالة العربية والزمالة الايرلندية. تعديتها كمؤهل علمي إضافي. لم تكن لدي أية ممارسات سياسية، لكني أتابع ما يدور بحكم محيطي. أقاربي يتعرضون للاعتقالات."

* أسبوع في غزة..

في ديسمبر 2007 اشتعلت الحرب على غزة. صار الوضع الإنساني هناك صعباً ومقلقاً. العكري يشعر بالألم والمسؤولية. يتصل   بصديقه الدكتور نبيل تمام عضو مجلس إدارة جمعية الأطباء: "نبيل.. لابد أن نعمل شيئا من أجل إخوتنا في غزة" -يقصد من خلال جمعية الأطباء- يتوافق الطرفان. يفتح نبيل الموضوع في إدارة الجمعية. يتم كل شيء سريعاً. يُعقد اجتماعاً طارئاً. تُشكل لجنة. تجمع التبرعات: " كان حينها موسم عاشوراء، عملنا محطات لجمع التبرعات ليلة تاسع وليلة عاشر. كانت هتافاتنا: انقذوا أطفال غزة بدينار. الناس تفاعلوا معنا. عملنا حملة في السيف وأخرى في جيان وفي العيادات، جمعنا مبالغ كبيرة. فُتح حساب لغزة باسم الجمعية".

يكمل العكري: "قمنا بتجهيز سيارتي إسعاف، وذهبنا إلى الحدود لتسليمها إلى أهل غزة مع مساعدات الأدوية. لم يكن في تخطيطنا الدخول بل فقط تسليم سيارات الإسعاف والمساعدات. عند الحدود، سمعنا أن هناك حاجة إلى جراحين وأطباء وأدوية في الداخل. كان قراراً صعباً. نحن أمام مغامرة ومخاطرة في آن واحد. أنا ونبيل نظر كل منا إلى الآخر. الزملاء الخليجيون انسحبوا. لم يطل معنا الأمر، قررنا أنا ونبيل البقاء والدخول إلى غزة. كنا وحدنا من الخليج بين حوالي 50 طبيبا وجراحا متطوعا من العالم".

عند المعبر، أعطى اتحاد الأطباء العرب لكل واحد شنطة مؤونة: "لا تستخدموا شنطة الطعام إلا إذا انقطعت بكم السبل". صار كل طبيب يحمل معه شنطتين، واحده لثيباه، وأخرى للمؤونة. لمدة خمسة أيام بقى الأطباء يذهبون للحدود كل يوم يحملون معهم حقائبهم، يعتصمون عند الحدود طوال اليوم، قبل أن يتم إرجاعهم بها في نهاية اليوم. تتصاعد وتيرة الضغط الدولي   على النظام المصري، يُسمح لهم بالدخول في اليوم الخامس.

يتذكر العكري: "وقعنا أوراقا تفيد بأن ما سيحدث لنا هو مسؤوليتنا الشخصية، بعدها سمح لنا بالدخول. ركبنا باصا صغيرا طاف بنا أمتار قليلة قبل أن نصير داخل غزة. لم نصدّق أنفسنا. استقبلنا أرض غزة بالسجود على الأرض. صلينا ركعتين من شدة الفرح. وهناك، عايشنا تجربة مؤلمة ومخيفة مع القصف اليومي واللحظات القريبة من الموت. في المستشفى استقبلنا حالات جثث متفحمة وعالجنا إصابات قاتلة وخطيرة. بقينا هناك أسبوعاً كاملاً قبل أن تتوقف الحرب، وقبل أن نعود لبحريننا بسلام".
    
* يوم 14 فبراير

حتى هذا التاريخ، لم يكن العكري معنياً بالحدث، لكنه أيضاً لم يكن غائباً: "كوننا أطباء لا يعني أن لا علاقة لنا بما يحدث في الربيع العربي. مع ثورات تونس ومصر، شعرت أن البحرين مهيأة لهذه الثورة قبل تونس حتى، لم أكن معنياً حينها، فهمت أن البحرين مقبلة على شيء كبير، لكن رغم ذلك لم أتوقع أن تكون الحركة بهذا الزخم".

في المساء خرجت المسيرات في عدد كبير من المناطق في البحرين: "سمعنا خبر استشهاد المشيمع، هو ابن منطقتنا (الديه)، بيته   قريب من منزل والدي (جاره). لم أكن في المستشفى حين سمعت الخبر. ذهبت مع ابن عمي الدكتور صادق العكري إلى المستشفى ودخلنا المشرحة. كان هناك الآلاف من الشباب المتجمهرين والغاضبين عند باب المشرحة. التقيت والد الشهيد وكان معه المحامي محمد الجشي. دخلنا المشرحة ورأيت الجثة بما عليها من آثار الإصابات: شوزن في منطقة الصدر تحديداً في الخلف الجهة اليسرى".

يكمل العكري: "طلب مني والده أن أتابع إجراءات الطب الشرعي ومن باب المؤازرة بقيت هناك. جاء الطبيب الشرعي وكان واضحاً عليه القلق والتردد. همّ بكتابة التقرير. استوقفته وقلت: ليس تخصصي الطب الجنائي، لكن أعتقد أن من أبجديات التشخيص معرفة سبب الوفاة، لماذا لا تطلب عمل أشعة للمتوفي؟ قال الطبيب: أنا أجزم أن هذا الصبي مقتول بطلق ناري، وهذا ما سأكتبه. اقترحت عليه عمل أشعة، قال: صعبة. كان هناك الإداري المناوب حينها (أحمد العم)، سألته: هل ممكن عمل أشعة. كان متعاوناً معنا ووافق. تم إحضار الأشعة المتحركة ( PORTABLE).أُخذت الأشعة وأُحضرت للطبيب. المرة الأولى التي نرى فيها انتشار الشوزن في جسد مصاب، كانت بمثابة نجوم في السماء، كلها جهة القلب".

يكمل العكري "حتى هذا الوقت لم يكن وجودي هناك إلا من باب الدعم الأخلاقي. تمّ أخذ أشعة من كل الجهات، تبين سبب الوفاة بشكل واضح، طلبتُ نسخة مبدئية من التقرير، قال الطبيب: سيجهز بعد أسبوع وسيعرض على النيابة. كتب الطبيب الشرعي على شهادة الوفاة بأنه يمكن تسليم الجثة للدفن. عدت البيت".

* يوم 15 فبراير

"عدت إلى المستشفى صباح اليوم التالي، مؤازرةً ذهبت لتسلم الجثة مع والد الشهيد. كانت الحشود متجمهرة بأعداد كبيرة عند المشرحة. طوابق المستشفى كلها تطل على التجمهر بتأثر بالغ. كان المنظر رهيباً وغير مسبوق. عند المشرحة وقفت سيارة جيب مغطاة بأعلام البحرين تم إعدادها لتسلم الجثمان".

يكمل العكري "كانت الشعارات كثيرة في الخارج، صلوات وأدعية وهتافات ضد النظام وضد القتلة ومايكرفون يتناوب بين الناس. خرج الجثمان مهيباً مفجعاً. وضع فوق السيارة وانطلقت الجنازة. لم أمش معها سوى قليل، وعدت من جهة عيادة الفاتح. كان التجمهر في الخارج كبيراً ويحملون يافطات. الحشود ممتدة من المشرحة إلى الشارع الرئيسي. مرور السيارات توقف".

لكن في الخارج كان ثمة ما حدث. عند المبنى المقابل لمستشفى السلمانية (بناية سناء) وقفت رافعة تابعة لوزارة الداخلية وعليها سيارة أمن عطبانة. يكمل العكري: "الجماهير كانت غاضبة ومنفعلة، توجه عدد من الشباب إلى السيارة وقاموا بمهاجمتها بأيد عزلاء، كنت حينها أقف على بعد أكثر من 50 مترا، فجأة سمعنا طلق نار، اتضح فيما بعد أنه شوزن. شعرت أن طلقة اعترضتني. وضعت يدي على رقبتي وجدت الدماء تسيل، كانت 5 طلقات شوزن قد استقرت في رأسي، لكنها إصابة سطحية، تراجعتُ مع مجموعة كبيرة داخل المستشفى. لم تكن سيارة النعش قد وصلت للبوابة بعد. الناس تراجعت وصارت اختناقات. تفاجأنا بالشباب يحملون شاباً آخر يركضون به. لم أتصور أنها إصابة قاتلة. كنت مشغولاً بنفسي وإصابتي. رجعت الجناح وقمت بتضميد جرحي ثم عدت. توجهت للطوارئ وسمعت أن هناك شابا يحتضر. كانت المستشفى فوضى عارمة".

يكمل "كان الطبيب المباشر حينها أمجد ديب (وهو أحد من شهد ضدنا فيما بعد) لم أتدخل، ذهبت للطوارئ وسألت عنه، عملوا له إنعاش القلب أكثر من مرة قبل أن يعلن موته. كان جاسم المهزع موجوداً وأنا جلست بجانبه. أُعلنت وفاة فاضل المتروك. سألت أمجد عن سبب الوفاة، قال: إصابة في الصدر. قلت له: لماذا لا تعمل أشعة لتثبيت سبب الوفاة. قال لي: سأسأل مسؤولي المباشر. لم يوافق المهزع".

الساعة بالكاد تجاوزت الثامنة صباحاً، جثمان آخر يخرج من المشرحة نحو التشييع. مسيرة أخرى حاشدة تخرج من طوارئ السلمانية إلى المشرحة. أجواء مفعمة بالفاجعة والحزن والصدمة. في الوقت نفسه كان جثمان الشهيد الأول يواصل مسيرته.


ماذا حدث في ظهر ذلك اليوم؟ وكيف عاش علي العكري هذه الأجواء؟ في الحلقة القادمة



التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus