إبراهيم شريف: العيش على "المارشال الخليجي": الهاوية مصيراً محتوماً
إبراهيم شريف - 2023-02-22 - 9:01 ص
وقّعت مصر، في كانون الأوّل 2022، رابع اتّفاق تمويل مع «صندوق النقد الدولي» منذ عام 2016، طَبّق بموجبه الصندوق "رُوشِتته" النيوليبرالية المعروفة: تعويم الجنيه، سياسات تقشّفية، خفْض الإعانات الاجتماعية، خصخصة القطاع العام لصالح اقتصاد السوق. في هذه الفترة، تضاعفت معاناة المصريين بدل أن تخفّ، وفَقد الجنيه نصف قيمته، وهربت رؤوس الأموال الساخنة، وتفجّرت الأسعار حتى أصبحت وجبة أرجل الدجاج بديلاً للّحم. السؤال الذي أحاول الإجابة عليه هو ما إن كان السيناريو المصري حتميَّ التكرّر في حالة البحرين، أم أن هناك طريقاً آخر لا يُحمّل الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، أكثر ممّا احتملوه خلال الأعوام الماضية بعد أن قَصمت ظهورهم ضريبة القيمة المضافة (10%) والتضخّم وتجميد معاشات التقاعد، ولا يَدفع بالفئات الدنيا من الطبقة الوسطى إلى حافّة الفقر.
خلال الأعوام القليلة المقبلة، سينتهي رصيد خطّتَي الإنقاذ الخليجيتَين: الأولى لـ"صندوق التنمية الخليجي" (مِنحة "المارشال الخليجي") بمبلغ 7.5 مليارات دولار لتمويل مشاريع البنية التحتية والإسكان؛ والثانية خطّة تمويل برنامج التوازن المالي البالغة قيمتها 10 مليارات دولار من القروض الميسّرة لتمويل عجز الموازنة، إلى أن يتحقّق التوازن المالي (تمّ تمديده إلى 2024 بسبب الجائحة). وعندما تُستنفد أموال "المارشال" المذكور في السنوات الثلاث الآتية، ستُصاب بعض قطاعات الاقتصاد المرتبطة بالبناء والتشييد والبنية التحتية، بحالة من الركود، قد تكون حادّة، لأن نصف ما يُصرف على المشاريع يأتي اليوم من تلك الأموال. ومع انتهاء سحْب مبالغ خطّة التوازن المالي، لن تستطيع الحكومة تمويل عجز موازنتها إلّا بقروض خليجية جديدة، أو إيقاع المجتمع تحت رحمة شروط "صندوق النقد الدولي".
أظهرَ الحساب الختامي للدولة لسنة 2021، أن الحكومة، على رغم إحالتها 18% من موظّفي قطاعها المدني إلى التقاعد المبكر، وتوفيرها مبلغ 130 مليون دينار (الدينار=2.65 دولار)، لم تُحقّق نجاحاً في خفْض مصروفات القوى العاملة إلّا بنسبة 2.5% عمّا كانت عليه في عام 2018. ثمّة عدّة أسباب لصعوبة خفْض كلفة الأجور والرواتب الحكومية، أحد أهمّها أن برنامج التقاعد المبكر لم يُطبَّق في أجهزة الخدمة العسكرية التي فاقت أجورها أجور موظَّفي الخدمة المدنية بنسبة تُقارب الـ30%. استمرّت الحكومة في تحقيق عجوزات كبيرة تقارب المليار دينار سنوياً (قبل النفقات السرّية) باستثناء عام 2022، حيث ساهمت الحرب في أوكرانيا في ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير، وزيادة العائدات النفطية بما يقارب 1.8 مليار دولار، إضافة إلى مضاعفة حصيلة ضريبة القيمة المضافة بعد رفْعها من 5% إلى 10%.
كان العام الماضي عاماً جيّداً من نواحٍ أخرى. فقد ساهم ارتفاع أسعار الألمنيوم في تحقيقه 1.1 مليار دولار أرباحاً في مصنع الألمنيوم (شركة ألبا) الذي تملك الحكومة 70% من أسهمه، وتحقيق صناعة التكرير (بابكو) أرباحاً قياسية بلغت 900 مليون دولار، بسبب ارتفاع هوامش التكرير العالمية. هذه النتائج أعطت الحكومة مجالاً لالتقاط الأنفاس وتأجيل بعض القرارات الصعبة التي من المتوقّع أن تشمل تغييرات في منظومة الدعم والإعانات الاجتماعية (ما يسمّى بـ"إعادة توجيه الدعم لمستحِقّيه")، من قَبيل رفْع أسعار وقود السيارات، وتغيير تعرفة الكهرباء والماء، وفرْض ضريبة متواضعة على الشركات، وربْما زيادة ضريبة القيمة المضافة مرّة أخرى إلى 15%، وهي النسبة التي تفرضها إحدى الدول المانحة: السعودية.
لم يَعُد هناك متّسع من الوقت لتأجيل الإصلاحات البنيوية الضرورية. فالدَّين العام السيادي تخطّى 20 مليار دينار (53 مليار دولار)، إضافة إلى 5 مليارات أخرى اقترضتْها الشركتان الحكوميتان القابضتان: شركة النفط والغاز "نوغا"، وشركة "ممتلكات". وفوائد الديون السيادية تستولي على أكثر من رُبع إيرادات الدولة، وتتزايد بشكل صاروخي بسبب زيادة الدَّين وارتفاع نِسب الفوائد العالمية. لا يوجد خيار سهل، لكن ثمّة خيارات عادلة وأقلّ وطأة على عموم الناس، ولا سيما الفقراء ومحدودي ومتوسّطي الدخل، يمكن تلخيصها بحلول لزيادة إيرادات الدولة، وأخرى لتقليص نفقاتها، بحيث يتاح تحقيق حوالي 1.5 مليار دينار من الإيرادات والوفورات، تُعادل العجز المالي للدولة البالغ حوالي 10% من الناتج المحلّي الإجمالي.
الدخل الضريبي اليوم يبلغ حوالي 10% من الناتج المحلّي الإجمالي البالغ 15 مليار دينار، بما فيه ضريبة القيمة المضافة والانتقائية والجمارك ورسوم البلديات واشتراكات التأمين الاجتماعي، مقارنةً بـ34% متوسّط الدخل الضريبي في دول "منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD). لا توجد اليوم ضرائب على الشركات أو على دخْل وثروة الأفراد. إن اعتماد نظام ضريبي تصاعُدي على دخْل الأفراد، وفرْض ضريبة على الثروات والأملاك العقارية وخاصة الأراضي البيضاء غير المستثمَرة، ورفْع رسوم استقدام العمالة الأجنبية، كل ذلك يمكن أن يحقّق إيراداً إضافياً يساوي 7% من الناتج المحلّي، من دون أن يرهق القطاع الخاص أو يشكّل عبئاً غير محتمَل على أصحاب الثروات الذين يدفعون ضرائب أعلى على استثماراتهم الخارجية. ومن ناحية النفقات، يمكن تقليص مصروفات الجهات العسكرية بشكل خاص، وترشيق الأجهزة الحكومية ودمْجها، ووقْف تمويل البرامج والهوايات الخاصة بالنخبة، وإغداق الأموال لشراء الولاءات، وإدماج ما هو معقول من النفقات السرّية في الموازنة العامة بعد الكشف عن تفاصيلها، وإنهاء الدعم لفئات الدخل العالي وأصحاب الثروات، بما يوفّر ما بين 3 و 4% من الناتج المحلّي الإجمالي.
غير أن الابتعاد عن التوجّهات الاقتصادية النيوليبرالية والممارسات الطفيلية لصالح نظام اقتصادي عادل، أمر لا يمكن توقُّعه من غير تغييرات هيكلية في تركيبة منظومة الحُكم، تلتزم بثلاثة مبادئ كبرى: مبدأ العدالة في توزيع الثروة، مبدأ الشفافية والأمانة في إدارة شؤون المال العام، ومبدأ سيادة الشعب من خلال برلمان يملك صلاحية انتخاب ومحاسبة وعزْل الحكومة. هذه الشروط الضرورية للإصلاح الاقتصادي والسياسي، كانت ولا تزال وستبقى محور نضال الحركة الوطنية البحرينية.
* الأمين العام الأسبق لجمعية "وعد" البحرينية المعارضة.