علي الجمري: "ما شفتوا عفيفة ولطيفة؟" الأدب الشّعبي وسيلةً لاسترجاع التاريخ

صورة التقطتها البعثة البريطانية لصنعة النسيج بقرية بني جمرة (أرشيف)
صورة التقطتها البعثة البريطانية لصنعة النسيج بقرية بني جمرة (أرشيف)

علي الجمري - مجلة ArabLit Quarterly، العدد الشتوي لسنة 2021م - 2023-02-27 - 12:41 م

ترجمة مرآة البحرين

هناك فصول مظلمة في تاريخنا، لم تُوَثّق على نحو كافٍ، لكنها معروفة جيدًا من خلال الذكريات القديمة الّتي تردنا عن طريق الروايات الشفوية. اطّلعتُ على بعض هذا التاريخ عند جلوسي مع جدتي وهي تسرد قصصًا مماثلة. أقول الجلوس معها، على الرغم من أن 3000 ميل (أي 5000 كيلومتر) وجائحة الكورونا تفصل بيننا: أنا في مانشستر في المملكة المتحدة، وهي في قريتنا بني جمرة في البحرين.

لكن من خلال شاشة الهاتف المحمول، جلستُ معها وتحدّثنا لساعات. انحَسرت الجائحة الراهنة في الوقت الذي كانت جدتي تستعيد فيه الماضي معي. قالت لي بين القصص: "كرّرنا هذه الكلام بس ما فكرنا بمعناها. ويش عرّفنا؟"

لعائلتنا اطلاع شفوي واسع على صعوبة الحياة القروية. تقع قريتنا بني جمرة في الساحل الشمالي الغربي للبحرين. ومما يُعزّز ذاكرتنا الجماعية حظنا الجيد بوجود عدد من الشعراء في سلالتنا، وخاصة من عائلة جدتي زهراء لأبيها الملا يوسف بن ملا عطية بن علي بن عبد الرسول الجمري. فالذّاكرة هي إحدى أهم أدوات الشعراء. ومن خلال هذه القصائد والروايات حُفِظ عدد من الذكريات من زمن الرّق الذي عاش فيه أجدادنا، والذي انتهى قبل من قرن، في العام 1923.

كنت أعرف بالطبع قصص أسلافنا الذكور. هناك آل عبد الرسول، الّذين استُخدِمت ديون بعضهم كذريعة من قبل الفداوية - وهم بلطجية الأسياد المحليين- للاعتداء عليهم واعتقالهم. فرّ أحد أبناء العائلة، علي بن عبد الرسول، مع عائلته إلى البصرة في حين جُرَّ أخوه محمد إلى السجن. بدوره، أقنع منصور ابن محمد السّجانين بجعله يحلّ مكان أبيه ويقضي فترة السجن بدلًا عنه. وكلا الأخوين، علي ومحمد من أسلافي، ومنصور جدي لأبي مباشرة، كان والد جدي المرحوم الشيخ عبد الأمير الجمري.

في غضون ذلك، تنقّلت عائلة علي بن عبد الرسول بشكل غير آمن بين جنوب العراق وجنوب غرب إيران. وفي إحدى الفترات أقاموا مع محمد بن سلمان وهو مهاجر آخر من قرية بني جمرة، الّذي لاذ بالفرار بعد أن اتّهمه الفداوية بسرقة صقر السيد. وكان دليلهم القاطع في ذلك أنّ ريشة الطائر المفقود، وُجِدَت على سطح مصنع النسيج العائد إليه. وتحت تهديد العنف، اتجه بأسرته شمالًا. محمد من أسلافي أيضًا، إذ تزوجّت ابنته طيبة من عطية ابن علي. تزوج الاثنان في العراق وهما أجداد جدتي زهراء لأبيها. ومع رجوع العائلة الى البحرين بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، سيصبح عطية بن علي لاحقًا واحدّا من أبرز شعراء اللهجة العامية البحرانية في البحرين.

لا تُشَكّل قصص الهجرة هذه فقط جزءًا من تراث عائلتي في بني جمرة. إنّها مشتركة لدى العائلة والتراث الشعبي في قرى البحرين. ومن جهة والدتي، هناك قصة جد والدتها (من جدحفص)، الّذي وُلِد في وسط الفقر المدقع في مطلع القرن العشرين، فهاجرت عائلته إلى قطر، حيث بقيت حتى الثلاثينيات من القرن الماضي. ومع أنني غير مطلع على ما إذا كانت عائلتها عانت من المظالم كما فعل أسلافي لأبي، إلا أن فقر العائلة بحد ذاته نتج عن الضرائب الباهظة والتعسفية المفروضة على البحارنة من أهل القرى.

في ذات الوقت يُعَرّف نظامان، الرقابيّة (أي ضريبة الرقبة، وهي ضريبة كانت تُفرَض على البحارنة في القرى وكان على رب الأسرة أن يدفع ضريبة عن كل ذكر في الأسرة يبلغ 15 عامًا فما فوق) والسخرة (أي العمل القسري) رقّ الأرض في البحرين. جوهريًا، يمكن لكل سيّد أن يسيء معاملة اهل القرى المحليين التابعين له من دون حدود، ويمكن لأي أرستقراطي أن يفرض الضرائب على القرويين المحليين على أيّ شيء ينتجونه، أو يفرض عليهم العمل بأي طريقة وفقًا لرغبته.

أكثر قصة تلفت النظر عن هذا العنف في الذاكرة الجماعية وصلتنا من الشيخ عبد الله العرب، وهو جدّ جدتي زهراء بنت يوسف من جهة الأم. وُجِد وصديقه مقتولَين على الطريق في العام 1923. قُتِلا ليلًا في طريق عودتهما من العاصمة المنامة إلى القرية. كان الشيخ عبد الله قد أصبح مناضلًا صاخبًا يطالب بإنهاء الرّق والعنف التعسفي الذي يمارسه الأسياد، وقد جمع حوله الكثير من سكان القرى لتوقيع عريضة تتضمن هذه المطالب. شكّل قتله اغتيالًا سياسيًا، ومحاولة لإسكات صوت قروي بارز من البحارنة، وأحد أعمال العنف الأخيرة الّتي ميّزت نهاية ذلك العهد. وبعد مضي كل تلك العقود، ما زلنا، أقاربي وأنا، كمراهقين في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، نعيد رواية قصة مقتله لبعضنا البعض.

البحارنة هم من العرب الأصليين، الّذين تعود إقامتهم في البحرين والساحل المحيط بها إلى 1800 عام على الأقل - ويشير اسم البحرين إلى هذه المنطقة الجغرافية الأوسع. يعود أصل أسلافهم إلى قبائل ربيعة وعبد القيس القديمة، لكنه يتضمن أيضًا شعوبًا عربية أخرى هاجرت واستقرت في المنطقة و"تبحرنت" على مرّ القرون، فاعتَمَدت اللهجة البحرانية والمذهب الشيعي الّذي يتبعه تقريبًا جميع البحارنة. (ومعروف أن أهل بني جمرة لهم أصول يمنية، وتوجد قبيلة آل جمرة في اليمن الى الآن، قبل استقرارهم في البحرين قبل أكثر من خمسمائة سنة على الأقل). استُخدِم مصطلح "البحارنة" في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، ويبرز ذلك في أسماء العائلات وألقابها. في غضون ذلك، قدم الحكام الذين أصبحوا أسيادهم عبر موجة هجرة أكثر حداثة من نجد؛ عندما غزا هؤلاء العرب البدو جيرانهم المقيمين في أواخر القرن الثامن عشر، ويمكن وصف علاقة الطرفين في تلك الفترة بأنها علاقة بين الغازي والمقهور. ولذلك، فإن الهوية البحرانية موجودة بالموازاة مع الهويات الهويات الخليجية الأخرى، وفي حين تتداخل هذه الهويات في بعض النواحي، إلا أنّها تتناقض بشدة في نواحٍ أخرى.

القصص العائلية التي وصلتني أكثرها سياسية. وازدادت معرفتي بشأن هذه المظالم المتفشية على خلفية القراءات التي أجريتها، كطالب، في سجلات مكتب الهند البريطانية الاستعماري، والذي يُوَثّق خطابات تفصيلية قدّمها بحارنة القرى إلى المسئولين البريطانيين بخصوص الانتهاكات. ولكونهم يمتلكون القليل من النفوذ في وجه السلطات المحلية، استفادوا من التأثير المزعزع للبريطانيين على الوضع الراهن للأرستقراطيين.

لكن ما ينقص في هذه القصص هو تجارب النساء بألسنتهن. أعرف قصص أسلافي من الذكور، وبإمكاني أيضًا القراءة عنها بالتفصيل في السجلات الاستعمارية البريطانية. لكن ما أقلقني هو أنّني ليس لدي أي فكرة عما كان عليه وضع حياة أسلافي من النساء.

أعتقد أن سببين يكمنان وراء جهلي هذا. يعود أولهما إلى المجتمع الأبوي/البطريركي: نحن نُثَمن قصص الرجال في مقابل قصص النساء، وقد استغرق الأمر وقتًا طويلًا لأحدد هذه النقطة المخفية عني وأعالجها. ويعود السبب الثاني إلى نشأتي في بريطانيا خلال انتفاضة تسعينيات القرن العشرين الّتي شهدتها البحرين. تظهر قصص أسلافنا من النساء بانتظام في قصص التراث الشعبي وتنتقل من الأمهات والخالات والعمات والجدات إلى أطفالهن، عبر التربية الجماعية للناشئة في المجتمع. لكنني كبرتُ في المهجر، وتوجب على والدتي أن تنافس القوى المُجانسة لديزني والأخوة غريم، في غياب شبكة نسائية عائلية تدعمها.

احتجتُ إلى جائحة لأدرك مدى ضآلة معرفتي وقدسية الوقت الّذي أمضيه برفقة عائلتي، لكنّني جلستُ في النهاية -عبر وسائل التواصل الكترونية- مع جدتي زهراء لأستمع إليها وهي تعيد إلقاء تلك الأشعار. ومن خلالها، فررتُ من جمود اللحظة الراهنة إلى ماضٍ يمكن لكِلينا وحدنا تخيّله. وفي حين اطّلعتُ بشكل نادر على قصص بعض النساء في عائلتنا (إذ تفضل جدتي أن تروي لي قصص ابيها وجدها)، فإن الكثير من هذه الأشعار والقصائد تتمحور حول الفتيات الصغيرات والأخطار التّي واجهنها في زمن قانون السخرة الإقطاعي، حين كُنَّ يحظَين بحماية أقل حتى من الرجال. وبهذه الطريقة، حُفِظَت قصص المجتمع النسائي بأكمله.

في مجلسها الفارغ (بسبب الجائحة)، والّذي يكتظ عادة بالأحفاد والأصدقاء، وأطباق من السمك المشوي والأرز، وصوانٍ من المكسرات، وكميات وافرة من الشاي الأحمر والقهوة العربية، أعادت جدتي إلقاء هذه الأشعار على مسمعي.

"فاطمة يا فطمطم

يا ربيعة قوم

راحت تبيع اللبن

قعدت اثنى عشر يوم

ما ادري خذوها عجم

لو خذوها قوم"

 

تمتلك هذه القصيدة ما يكفي من الغموض للتهرب من الرقابة، ومن بين القصائد الّتي شاركتني إياها جدتي، هي الوحيدة الّتي وجدتها في المجموعات الحديثة للأشعار الشعبية. لكن هناك أمر مقلق للغاية بخصوصها. أُرَكّز على كسر قافية الميم في السطر الثالث، وكلمة "اللبن". إنه الوقت الّذي تتغير فيه حياة فطمطم، وتُعطّل قضية اختطافها قافية الشعر الطفولية. ومع ذلك، تعود قافية الميم لتظهر فورًا في السطر التالي مع كلمة "يوم". يبدو الأمر كما لو أن حجرًا رُمي في المياه، وغرق على نحو غير متوقع تاركًا خلفه موجة واحدة بالكاد على السطح. هناك نسخ مختلفة من هذه القصيدة في قرى البحرين، ويُستَبدَل "اللبن" فيها أحيانًا بـ "الغزل"، ومع ذلك، تحافظ الاختلافات التي لحظتها على مسألة كسر القافية هذه. ويزيد كون الشخص المسؤول "رجلًا أجنبيًا" أو "سيدًا" من غموض الخسارة. وفي حين تشير كلمة "عجم" عادة إلى الفرس ، إلا أنني أعتقد أنها استُخدِمت للحفاظ على وزن القصيدة بدلًا من إيصال أي رسالة ذات مضمون عميق إلى العجم. لا نهاية في القصيدة، وليس من الواضح على من يقع اللوم على وجه التحديد.

قالت جدتي بعد قصيدة واحدة: "هذا كله يسوّون على عمرهم، من الظلم يعبرون بهذه القصص".

غالبًا ما تتناول القصص الشعبية القضايا السوداوية، وتنقل الأخطار الحقيقية إلى الأطفال. فما الذي يخبرنا إياه اختطاف فطمطم عن المخاطر الحقيقية التي واجهتها الفتيات الصغيرات؟ تحت قانوني الرقابيّة والسخرة، بإمكان أي سيد مطالبة القرويين التّابعين له بأي ملكية أو عمل. وفي زمن كانت النساء فيه يعامَلن كملكية، هُنّ أيضًا، كُنَّ معرضات لخطر "الاستحواذ" القسري.

تنقل لنا السجلات البريطانية قصة سيد اشتُهِر باختطافه القسري للنساء، ما دفع القرويين في مسكنه الصيفي إلى إرسال بناتهن إلى الخارج في كل عام، تحديدًا إلى عوائلهن في القطيف (الموطن الآخر للبحارنة في البر، وهذه المنطقة هي حاليًا المنطقة الشرقية في السعودية). كان اسم فاطمة حينها، ولا يزال، اسمًا كثير التداول لدى القرويين الشيعة. والكثيرات من الفواطم في جميع أنحاء الجزيرة كُنَّ معرضات لخطر ذلك القدر المجهول.

وفي الوقت الذي نستذكر فيه قصيدة فطمطم في جميع أنحاء الجزيرة، نذكر بعض القصائد المحلية الأخرى. ألقت جدتي على مسمعي قصيدة معروفة فقط في قريتنا:

"ما شفتون بنات الصباغ

قالوا لا

مكحلين و بيضان

قالوا لا

عليهم بخانق خضران

قالوا لا

خذوهم مني البدوان

قالوا لا

ودوهم لابن السلطان

قالوا لا

قطعوا مني النيطان

قالوا لا

أشكوهم ربي الرحمن

قالوا لا

داووني بدوا الصرعان

قالوا لا

قالوا لا

قالوا لا"

 

ملتفة بقطعة قماش خضراء فاتحة، وهي ترتدي نظاراتها الشمسية حتى في الداخل (بسبب مرض في عينها)، كانت الجدة زهراء تُمَسّد ذقنها وهي تروي قصة هذه القصيدة. يُقال إن الصباغ كان في الماضي نساجًا، كما كثير من رجال بني جمرة، وهذه قصته:

"رجّال يصنع، نسيج يعني، عنده بناته ثنتينهم يقعدون ويّاه. عاد لين أحد جه يطرّش بناته - روحوا جيبوا قهوة وتمر، ولو أيام الرطب، رطب. جاءهم واحد على خيل ليستريح في دكانه (مصنع النسيج). قال لبناته - قوموا روحوا جيبوا القهوة. جابوها وحدة حاملة الدلة، ووحدة حاملة السلة. سلة من سلال الأول، اللي يسوّونهم من السعف، مادري كيف، سلال حليوين. يجيبون فيهم التمر. مو مثل الحين، سلة من النايلون. فجابوا يحملوهم. وعليهم بخانق، كل وحدة بخنق أخضر، مو سودان".

هنا نهضت جدتي لتستخرج من بين أغراضها بخنقًا قديمًا ونشرته أمامها. هو عبارة عن قطعة من الملابس للفتيات الصغيرات، تلف الفستان الرأس والجزء العلوي من الجسم، بحيث يظهر وجه الفتاة الصغيرة كقمر فوق حقل من المُطرّزات.

وواصلت جدتي الحديث:

"رأى الرجل مدى جمال الفتاتين فسأله: "هذولة بناتك؟"

وأجابه الصباغ: قال "إي يا طويل العمر، إي بناتي".

قال له: "عجل هذولة حقي". شرب القهوة وحمل البنات على الخيل ومشى بهم. بعد ذلك ما يقدر يتحكّى المسكين الفقير. استجن. بنّد صنعته وراح يضرب على البيوت.

"ما "شفتون بنات الصباغ؟.. قالوا لا" - يرد على نفسه! "مكحلين وبيضان؟.. قالوا لا! عليهم بخانق خضران؟.. قالوا لا!" يرد على روحه. استجن الرجّال وبس ما فيه فايدة. ما يقدر يقعد يصنع، بس هذا يضرب على بيوت الناس ويسأل عن البنات. والظاهر بعد إن ما عنده إلا هدول البنات الثنتين، توهم جهال. بنات الصباغ، هذا هي".

تُصَوّر القصيدة الوصول إلى مرحلة الجنون. ومن خلال وصف الفتاتين أولًا، ومن ثم وصف مختطفهما (لم يكن هناك سلطان في الحقيقة، وقد تكون الكلمة استُخدِمَت للإشارة إلى أحد الأسياد/الشيوخ). ومن ثم يحصل التحول -مع الشكوى لله - قبل النزول إلى مرحلة الجنون المتكرر لعبارة "قالوا لا". لم يقل الصباغ شيئًا حين اختُطفَت بناته، ويبدو الآن أن القصيدة تجهر بما اختزنه في صمته. هل شعر بأنه متواطئ في عملية الاختطاف؟ لكن هل كان بالإمكان فعل أي شيء؟ تحت قانوني الرقابية والسخرة، يحق للسيد/الشيخ أن يطلب ما يريده من القرويين - بما في ذلك الأشخاص. والمخاطر المحيطة بالأب الّذي يقاتل كانت حقيقية.

تتناول هذه القصائد كلًّا من الخطر المروع المحيق بالفتاتين الصغيرتين، وانعدام الوكالة (سيادة الإنسان) لدى حُماتِهما من البالغين.

إحدى أكثر القصص المزعجة التي قرأتها اكتشفتُها على نحو غير متوقع في كتاب مهدي عبد الله التاجر: "اللغة والأصول اللغوية في البحرين: دراسة في لهجة البحارنة العربية" (1989). أرفِقَت في ملاحق هذه الدراسة اللغوية مقابلة مع امرأة من الدراز، وهي قرية مجاورة لبني جمرة. روَت للمؤلف مهدي التاجر قصة من التراث، وأعدتُ نقل النص وتعديله قليلًا لتسهيل قراءته:

"في أحد الأيام، كان هناك حاكم -لا حاكم إلا الله! قرب منزله، كان هناك كوخ يملكه جاره الفقير. وكان لدى مالك الكوخ مزرعة صغيرة، بحسب إمكانياته المحدودة. بلغت حرارة الجو حدًا لا يُطاق في تلك الليلة. فقال الحاكم: "خلينا نروح حديقة الفقير، نتنزه شوي"، وخرجوا للنزهة.

فجأة، كان هناك شخصان واقفان، وأحدهما يحمل ورقة وقلمًا.

قال أحدهما: "يا خوك اكتب!"

أجابه الثاني: "أيش اكتب؟"

قال له: "اكتب أن مرت (زوجة) السلطان تحمل وتجيب ولد، ومرت (زوجة) الفقير تحمل وتجيب بنت ويتزوجون"

لم يخبر السلطان أحدًا عما سمعه. وعاد إلى المنزل، وشاء الله أن تحمل زوجة السلطان وتضع صبيًا، وأن تحمل زوجة الرجل الفقير وتضع فتاة. لقد حصل الأمر تمامًا كما تنبأت به الأصوات.

وبمجرد أن علم السلطان بأن زوجة الرجل الفقير وضعت فتاة، ذهب إلى والدها وقال له: "جابوا لك بنت"

أجابه الرجل الفقير: "إي، جابوا لي بنت"

أجابه السلطان: "بيعناها"

قال الرجل الفقير: "كيف أبيعك إيانا؟ أنا رضيت، وأمها يمكن ما ترضى".

قال السلطان: "لا، قول لها بعتكم هل كثر فلوس..."

ذهب الرجل الفقير إلى زوجته وقال لها: "يا بنت فلان، السلطان يبغاها. نبيعها إياه؟ انتين ويش نظرك؟"

تعجبت المرأة: "يووو! توها مجيوبة، بعدها صغيرة، يبيعونها؟"

قال لها: "أقول لك أعطيه إياه، لا يقتلونا".

أتى رجال السلطان وأعطوهم الفتاة. لقد أعطوها لهم. وأخذها في لفافتها إلى الغابة، حيث تعيش الكلاب. وبالقرب من قبر هناك، نزع أحشاءها وهرب.

في ذلك اليوم، كان والدا الفتاة متجهين إلى حديقتهما. سمعت الأم شخصًا يتنفس في الغابة، وقالت لزوجها: "أحس نسم في الغابة".

أجابها: "يمكن تكرم كالة ولادها."

أجابته: "لا... ما أتقلقل، أول تعال معاي."

وحين دخلا، وجدا ابنتهما ممددة في وسط الغابة، وهي لا تزال تتنفس، في حين كانت بطنها لا تزال مفتوحة.

اصطحباها إلى المنزل وداويا جروحها. وقد طابت الجروح.

قال الأب: "يا بنت فلان".

أجابته زوجته: "يا الله".

قال لها: "خلينا نطلع من هذه البلد. ما إلينا حاجة فيها. هذا أوّلياتهم. لا خيرات الا في التوالي. خلينا نسافر".

فسافرا. إلى أين ذهبا؟ لقد ذهبا إلى البصرة.

 

القصة الشعبية لا تُقَدّم لنا أي شرح عن التصرفات الوحشية للسلطان، على الرغم من أنه يمكننا التخمين. برأيي، يعكس هذا الهوة الاجتماعية بين الأسياد وتابعيهم الّذين نسجوا هذه القصص. ومن المثير للاهتمام أن العنف التعسفي للسلطان أتى أيضًا رفضًا لنبوءة. وبالتالي، فإن أفعاله ليست فقط موجهة ضد القرويين ولكن أيضًا ضد الإله. لا تنبئنا القصة عما إذا تحقق الزواج المتنبأ به، وكما هو الحال مع الكسر في قافية فطمطم، فإنّ الحبكة التي لم تُحَلّ تعكس الاضطراب الشديد في الحياة، والناجم عن هذا العنف العرضي ضد النساء.

تعكس قصص فطمطم وبنات الصباغ الخطر الحقيقي الذي كانت تواجهه الفتيات الصغيرات في القرية -والأمر الأكثر إثارة للصدمة هو أن الفتاة الّتي لم يُذكَر اسمها يافعة جدًا. هناك جانب إيجابي، مع تدبر الوالدين مسألة إنقاذ ابنتهما، واتخاذ القرار الوحيد الّذي يمكنهما اتخاذه - المغادرة إلى البصرة.

تعكس نهاية القصص الشعبية الأحداث في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حين أصبحت هجرة البحارنة من قراهم إلى ملاذات آمنة في الخليج أمرًا شائعًا، وشكّلت البصرة غالبًا الوجهة الأولى. وهناك حقيقة في ذلك. فجدّي زهراء لأبيها تزوجا في قرية "قطعة الشيخ" في البصرة، الّتي فرّت إليها عائلاتهما هربًا من مثل هذا العنف التعسفي. الفتيات في هذه القصص حقيقيات ومن صنع الخيال. كم عدد الحكايات الشعبية التي تعكس القصص الحقيقية للإناث من أسلافنا؟

قالت جدتي زهراء لأحد أبنائها عن أمها سلمى بنت عبد الله العرب وهي تروي هذه الأشعار: "إي، الأوّل مساكين... حتى جدتك تقول يجون إليهم ينتفونهم من الضرب".

أرتجفُ عندما أتخيل هذه الأحداث. ومع ذلك، فإن الكثير من هذه الأشعار والقصائد تُصور الخسارة الغامضة والعنف والتجريد من الوكالة (سيادة الانسان على نفسه)، ويُصبح إلقاؤها وإعادة إلقائها فعلُ مقاومة. من الممكن اختطاف الأطفال واستغلالهم، وسجن الآباء، غير أنّه ليس من الممكن للشعوب أن تنسى.

يتجسد المثال الأوضح على ما أقوله في القصيدة المفضلة لدي من تلك المرحلة:

" يا جدوع البيت ما شفتوا عفيفة ولطيفة؟

أخذوا حالي ومالي وزقوا في الصريفة

ودوني العلالي ودقوا بي حسافة

يا هلي وعيالي شوفوا لي تصريفة

عمري صابه البين وداري صارت جيفة

مادري كلهم سعلو لو لفوا صريفة"

 

أيّ راحة من الكآبة كلّها! إنه انتصار لاثنتين من هؤلاء الفتيات. تلقّيت القصيدة من مصدر مختلف. لكن عندما قرأتها لجدتي، تسرّبت ضحكتها عبر الهاتف، وأعادت إلقاء هذه الأبيات المألوفة على مسمعي.

بخلاف القصائد السابقة، يتم إلقاء هذه القصيدة بصوت بدوي أرستقراطي. وبالتالي، فهي تحاكي لهجة العنزي المحكية من قِبَل ذوي الأصول البدوية، وتختلف تمامًا عن لهجة البحارنة المستخدمة في بقية القصائد. هذا السيد يفتقر إلى الكرامة والعقل. لا يستطيع أن يفهم سبب هرب عفيفة ولطيفة - فبرأيه، لقد أعطاهما دوطة! ويتساءل ما إذا كان السعلو - وهو كائن ذئبي شيطاني- قد أكلهما، أو أنهما وجدتا رجلًا آخر (أو أن رجلًا أخر وجدهما). لقد بقيت داره كالجيفة. ولم لا يكون الأمر كذلك؟ لقد تركت عفيفة ولطيفة هدية وداع نتنة. هل يستحق أكثر من ذلك؟

لقد كان واقع النساء والفتيات مرعبًا. وحتى لو هربن من أسرهن، فإن عودتهن إلى المجتمع الأبوي/البطريركي في القرية ستكون أمرًا صعبًا. مع ذلك، يمكننا الاحتفاء بهذه اللحظة، حين هربت الفتاتان صاحبتا الإرادة القوية. تسمح هذه الكوميديا العامية بإهانة الأسياد، ومع فقد فطمطم، يتم إنقاذ عفيفة ولطيفة، وهذه المرة، لا لبس في حقيقة كونهما شاركتا بفعالية في تقرير مصيرهما الخاص. في بحثي الشخصي عن خاتمة هذه الرحلة، أرغب أن أتخيل بأن عفيفة ولطيفة هما ابنتا الصباغ. لم لا؟

والدة جدتي زهراء، وتُدعى سلمى، كانت تبلغ من العمر عامًا واحدًا عند مقتل والدها، عبد الله العرب (في العام 1923) في خضم حملاته للمطالبة بإنهاء الرق (ونظامي السخرة والرقابيّة). وعلى الرغم من أنه لم يعش ليرى ذلك، إلا أن عمله كان مثمرًا. اشتد التدخل البريطاني في البحرين في أوائل العشرينيات من القرن الماضي. فاغتنم البحارنة القرويون، الّذين كانوا عديمي النفوذ في ظل النظام القديم، الفرصة للضغط على القوة الاستعمارية لوضع حد للرق، الّذي أصبح القضية السياسية الرئيسة آنذاك. في العام 1923، أجبرت القوة الاستعمارية الحاكم على التنازل عن العرش -كانت المسألة متعلقة بشأن المصالح الإمبريالية أكثر من أي اعتراض أخلاقي- وعينت مكانه ابنه الأكثر امتثالًا لرغباتها. وفي ظل القيادة الجديدة، ألغت البحرين ممارسات الرقابية والسخرة، ومعها، تم إلغاء الرق. وكنتيجة لذلك، لم تعانِ سلمى أبدًا مما عاشه أسلافها. وفي حين يبدو أن بعض التهديد بقي موجودًا في زمنها، إلا أنه لا يمكن مقارنته بالعنف التعسفي والمخاطر الّتي واجهتها النساء في السابق.

لم تكن الحياة بالنسبة لذلك الجيل الأول بعد نهاية زمن الرق بسيطة أو مباشرة. وكما روت لي الجدة زهراء، "كل القرى كذا... ومال النخائل والزراريع (المزارع) أزيد. هذه بني جمرة أشوى". وأثناء حديثها عن الفترة التي سبقت ولادتها في أربعينيات القرن الماضي، تمتلئ القصص بالقمل والأوساخ والجوع -لكن ليس بتهديد العنف التعسفي الّذي ألقى ظلاله على جيل أجدادها. لا بد أن والدتها سلمى سمعت قصص النساء اللواتي وُلِدن قبلها، ونقلتها إلى بناتها، اللواتي نقلنها مجددًا إلى الأجيال اللاحقة.

مع كل قصة يُعاد سردها، نتذكر الماضي. ولكن لماذا يتوجب علينا أن نتذكر مثل هذه الأمور الفظيعة؟ هناك الكثير من الأشعار الشعبية الّتي تضم أحداثًا أقل قتامة في طياتها، وتُصوّر طفولة أكثر براءة ولطفًا. لكن هذه بالذات مقنعة. منذ الصغر، تُعِدّ هذه القصص الأطفال للمظالم الاجتماعية الّتي قد يواجهونها يومًا ما. وفي إعادة سردها، تُصَوّر حقيقة أخرى -أن التعبير عن هذه القصص يريح الراوي من عبء المعاناة. إعادة السرد بحد ذاتها فعلُ مقاومة.

وبدورها، تُجَذّرنا هذه القصص في بيئتنا وتاريخنا، وتسمح لنا بفهم مكانتنا في العالم. في فترة الجائحة، لم أتمكن من زيارة عائلتي، وأصبحت الروايات الشعبية والقصص الشفوية طريقة أمضي بها وقتًا ثمينًا مع العائلة. عبر التّذكر، يمكننا أن نفكر في وقتٍ هو الآن، لحسن الحظ، متجذر جدًا في الماضي، ويمكننا أن نأخذ بعين الاعتبار ما تغير بالنسبة لأحفاد هؤلاء القرويين، وأيضًا ما لم يتغير. 

 

النص الأصلي