المَلَكِيّة ليست ضمانًا (1-2)

عباس المرشد - 2012-10-21 - 6:54 ص


عباس المرشد*

رغم حالة التعقيد التي تبدو عليها الوضعية السياسية في البحرين، إلا أنّ السر الكامن في خباياها لا يعدو أن يكون جوابًا على سؤال من يحق له أن يحكم هذا البلد الصغير. السلطة، بجهازها الأمني والإعلامي وكافّة الإدارات والمؤسسات، تصر على أنَّ حكم البحرين هو حقٌّ لكافّة أنظمة الخليج العربي، وأنّ أي تغيير في نظام الحكم يجب أن يكون تحت رعاية وموافقة شيوخ دول المنطقة.

تحت هذا الغطاء التضامني والمُبرم باتفاقيات أمنية وسياسية يقع منطق السلطة الحقيقي، وهو أنّ حُكم البحرين هو أمر خاص بالعائلة المالكة، وبتعبير حاكم البحرين محمد بن خليفة، في 1854، أنّ البحرين مُلك يتوارثه حكام البحرين.

منطق التوريث والاحتكار ليس منطقًا قديمًا غير قابلٍ لأن يجدّد نفسه، وفق مستجدّات سياسية ومتطلّبات التغيير الاجتماعي والسياسي، فهو منطق قادر على أن يُعيد إنتاج مخرجاته إذا ما فقد المواجهة الصريحة والقوية. فلو لم تحدث ثورة 25 يناير في مصر لأصبح أحد نجلي مبارك حاكمًا على مصر.  وقبل ذلك، لو لم تحدث مقاومة النظام العراقي السابق لكان حكم العراق موزعًا كتركة بين أبناء صدام حسين. وهنا لا بد من التركيز على المفهوم السياسي للقوة والاحتكام إليه بشكل مستمر لتقييم الوضع ودوزنة الأحداث، فالقوة كمفهوم سياسي تعني القدرة على التأثير في الطرف الأخر، وجعله يقوم بردة فعل. والقوى السياسية التي تعجز عن جعل النظام يغيّر من رتابة أفعاله هي ضعيفة سياسيًا لكونها تفتقد القدرة على جعل السلطة تقوم بردة فعل.

بحسب خبرة الساسة الكبار فإن كل كلمة وتصريح سياسي يعني ثمنًا وموقفًا من المهم جني ثمرته أو ثمنه، وهذا ما يجعل من وزير العدل البحريني يرفض، في جلسته الأخيرة (الأربعاء 17 أكتوبر 2012) مع ممثلي جمعية وعد، مصطلح التفاوض الذي طرحه رضي الموسوي، ويصر على أقصى ما يحاوله النظام، وهو الحوار، أي أن القبول بمفردة التفاوض هو دفع ثمن سياسي وحقوقي مختلف عن ثمن الحوار.

إحدى تجلّيات استمرارية منطق التوريث والاحتكار ما بات يُطلق عليه بالسلطوية التنافسية، حيث تسمح الأنظمة المتسلطة الاستبدادية بإجراءات الانتخابات والمظاهر الديمقراطية المتعددة، إلا أنها تعمد إلى إفراغها من مضمونها، وبالتالي فهناك هياكل ديمقراطية لكن لا توجد ديمقراطية، فالانتخابات تُجرى في مواعيدها وبشكلٍ مباشر لكافّة أعضاء السلطة التشريعية، إلا أنّ من يصل لشغل تلك المقاعد هم أعضاء الحزب الحاكم، أو الفئات الموالية للنظام، وتبقى المعارضة ضعيفة الحضور مقلّمة الأظافر، وتتحوّل بفعل التكرار لحالة تشبه القوة الكارتونية التي يسهل عزلها ونقلها والتخلص منها بكل سهولة. في أغلب هذه الحالات تمتلك المعارضة مجالًا لأن تصرخ وتعلي من صوتها، وأن تمارس أفعالًا احتجاجية منظّمة وواسعة، في حين أنّ مصادر القوة والقدرة على توزيع السلطة والثروة ومناطق النفوذ تبقى بيد الحاكم، من خلال إحكام الخناق على عمل المعارضة بقوانين مقيدة للنصوص الدستورية المتفقة والهياكل الديمقراطية.

مقاومة منطق التوريث وقلب الطاولة على السلطلوية التنافسية لا تنتهي بفهم منطق الأحداث وتعقيداته الإقليمية أو موزاين القوى الداخلية، فعبر هذه التعقيدات وميزان القوة يستمد النظام التسلطي عناصر إمداد بقائه وتضخّمه وقدرته على الإمساك بزمام الأمور. وبالتالي فإن التوقّف عند لحظة الفهم، وبناء استراتيجيات المقاومة على تُخوم المنطق السائد، لا يعني سوى تكريس الوضع السائد.

نعم قد تنجح القوى المعارضة في تحقيق نقاط متقدمة جزئيًا، كما في حالة بعض التعديلات الدستورية، أو مواد بعض القوانين المقيدة، وهو ما يوهمها في النهاية بإمكانية التعايش مع النظام أو إمكانية تغيره تدريجيًا، دون أن تلتفت إلى أن هذه الخلطات السياسية هي عينها ما تحاربه وتحاول مقاومته، أي السلطوية التنافسية، فمثل تلك التعديلات الدستورية الهشّة والمواد القانونية المضافة هي هياكل فارغة المضمون أساسًا. لذا لا غرابة أن يعتقد عدد من الباحثين أن قوى المعارضة وأحزابها تدخل في كثير من الأحيان بطريقة غير مباشرة في علاقة تخادم مع السلطة، فهي، بحكم تفكيرها حول ضمان بقائها واستغلال المجالات المتاحة، تدفع ثمنًا سياسيًا يستخدمه النظام في الترويج لمبدأ التنافسية والهياكل الديمقراطية الفارغة، ويستفيد منها في خلق منطقة خالية من التوترات السياسية، يعيد فيها إنتاج منطق التوراث والاحتكار الفعّال للسلطة.

بطبيعة الحال، فإن إسقاط المتغيرات الإقليمية والحسابات السياسية الاستراتيجية لا يعني صوابية المواجهة الدموية مع النظام بالمطلق بقدر ما يتطلب الوضع المعقد زيادة الإدراك الواضح لمعادلات القوة وميزانها إقليميًا ومحليًا، فما يعتبر اصطفافًا دوليًا وحمايةً شبه مطلقة، يبقى محكومًا بقواعد دولية وسياسية، رغم صعوبة اختراقها، لكنها ليست بالمهمة المستحيلة، ومتى ما شعرت هذه الدول بأن مصالحها الاستراتيجية معرضة لأن تفقد معادلها السياسي، فهي تعيد بناء شبكتها مجددًا، بحسب مقدار القوة التي تظهر بها القوى السياسية المعارضة. وبالتالي فإن التطمينات السياسية في كثير من الأحيان لا تعطي دوافعًا جادة للتغيير لسبب بسيط جدًا هو أنّها تفتقد للقوة السياسية، ويجعل من أفرادها في موقع ضعف أو استضعاف سياسي.

*كاتب بحريني.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus